بقلم : عبير مدين
يعتبر الفن المرآة التي تعكس ثقافة الشعوب وتؤرخ الأحداث بأسلوب يسهل به التأثير على المتلقي عن طريق القصة و المؤثرات التي تخدمها كذلك اختيار نجم الشباك أو وجه جديد من أكثر الأمور احترافية لنجاح العمل الفني
وتعتبر مصر من أولى الدول التي لاقت صناعة السينما نجاحا فيها و على مسرح الحياة نسافر الإسكندرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى خمسينيات القرن العشرين حيث تعيش اكبر جالية اجنبيه في مصر ،أوجدت تلك التعددية حالة من الاندماج الفكري والانتعاش الثقافي في المدينة،
وانعكست على مصر كلها فأصبحت الإسكندرية مسرحاً لجذب الفنون المختلفة، وأرضاً خصبة للإنتاج الفني والثقافي. وشهدت المدينة عام ١٨٩٦ ثاني عرض عالمي للاختراع الجديد في ذلك الوقت: السينما، كما أنشئ فيها أول صالة عرض في مصر وشركة إنتاج وستوديو تصوير ومعهد لتعليم هذا الفن الجديد، لتصبح الإسكندرية في سنوات قليلة عاصمة السينما في الشرق الأوسط.
وعندما تطل الأعمال على الشاشة الفضية تتزاحم الأعمال التي تحمل توقيع توجو مزراحي ذلك الشاب اليهودي المغامر الشخصية التي جمعت عدة متناقضات وصراع في أعماقه بين مخرج و منتج و ممثل
هذا الفتى الذي لم يتعرف عليه حتى والده في أعماله التي كان يشاهدها
توجو مزراحي يحتاج حلقات كثيرة للحديث عنه ليس لغزارة انتاج فقط لكن لأن كل عمل شارك في صناعته كانت أصابع الفلسفة تضع بصمه له فكان دائما هناك مغزى عليك أن تكتشفه بنفسك وانت تشاهد العمل
وهو يعد أحد أعمدة صناعة السينما في مصر ومكتشف المواهب الفنية التي أصبحت رموزاً كبيرة للفن في مصر والعالم العربي حتى وقتنا هذا
ولد توجو مزراحي في ٢ يونيو عام ١٩٠١ لأسرة مصرية من أصل إيطالي كانت من أغنى عائلات يهود الإسكندرية في فترة العشرينيات، إذ كان يعمل والده وأعمامه في تجارة القطن، وكان والد توجو مديراً للشركة الجمركية للمستودعات التجارية.
في سن السابعة عشرة، أثناء مرحلة تعليمه الجامعي، التحق توجو بالعمل في شركة والده محاسباً، وأكمل دراسته وحصل على دبلوم في التجارة وتم تعينه موظفاً في الشركة الكبرى للأقطان بالإسكندرية.
وفي العشرين من عمره ١٩٢١ ترك توجو العمل نهائياً وسافر إلى إيطاليا لاستكمال تعليمه بناء على رغبة والديه، آملين في عودته لتوسيع تجارة العائلة، ثم انتقل إلى فرنسا وحصل على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد.
تقوده الصدفة يوما أثناء إقامته في باريس لزيارة واحد من أشهر ستوديوهات السينما في فرنسا وهو “ستوديو جومون”، حيث شاهد تصوير العديد من الأفلام الفرنسية، وتابع عملية سير إنتاج الأفلام السينمائية.
بين أروقة ستوديوهات باريس وجد توجو مزراحي حلمه في العمل بصناعة السينما، فقرر أن يتخلى عن العمل التجاري ويتفرغ تماماً لدراسة السينما.
شارك ككومبارس في العديد من الأفلام ولعب بعض الأدوار الثانوية، وكان يقضي في الستوديوهات والبلاتوهات ساعات طويلة حتى أصبح ملماً بكل تفاصيل المهنة من إخراج ومونتاج وديكور ومكياج وموسيقى تصويرية وغيرها من مفردات صناعة السينما.
اشترى كذلك كاميرا تصوير حديثة في ذلك الوقت، وتمكن من تصوير بعض الأفلام القصيرة عن معالم باريس وروما، تعاقدت معه “الشركة السينمائية العالمية” في باريس على شراءها وتسويقها. بذلك، يعد توجو مزراحي أول مصري درس وتعلم صناعة السينما في الخارج.
وبعد ٨ سنوات من التعلم في باريس، قرر العودة إلى مصر عام ١٩٢٨ ناقلاً خبرته السينمائية إلى الإسكندرية، فقام بإنشاء أول ستوديو سينمائي خاص به يحمل اسمه “ستوديو توجو” لإنتاج الأفلام الروائية الطويلة، في حي باكوس وجهزه بالمعدات اللازمة من ديكورات وإضاءة وأعمال المونتاج وغرف للممثلين وغيرها
يعد فيلم “الهاوية” أول فيلم روائي طويل صامت من إخراج وإنتاج ستوديو توجو. عرض لأول مرة في دور العرض السينمائية في الإسكندرية في ٢٥ نوفمبر عام ١٩٣٠،ثم بعد ثلاثة أشهر في القاهرة تحت عنوان “الكوكايين”.
وقد قام توجو ببطولة الفيلم باسم مستعار “أحمد المشرقي” خوفاً من غضب عائلته التي كانت تطمح إلى أن يستمر في العمل التجاري،
وشاركه في بطولة الفيلم الممثل “شالوم” واسمه الأصلي “ليو انجل”. حقق الفيلم نجاحاً كبيراً أثناء عرضه في القاهرة ولاقى استحسان الحكومة المصرية، إذ أرسل له حكمدار القاهرة الإنجليزى “رسل باشا” خطاب شكر عن صناعة هذا الفيلم الذي يعالج قضية اجتماعية كبيرة هي الإدمان، وفي عام ١٩٣٤ أصبح فيلم “الكوكايين” ناطقاً ومصحوباً بالموسيقى التصويرية.
في عام ١٩٣٢، أنتج توجو مزراحي فيلمه الثاني “خمسة آلاف وواحد” الذي شارك في بطولته مع الممثل “شالوم”. او كما أطلق عليه شارلي شابلن الشرق
أستغل توجو مزرحي نجاح شخصية شالوم وقدمها في سلسلة اعمال كوميدية لاقت نجاحا سينمائي خلال هذه الفترة، وهي تعد أول حضور قوي للشخصية اليهودية في السينما المصرية،
وتعكس حياة اليهود في مصر من خلال مواقف كوميدية تتعرض لها الشخصية، مؤكدةً على اندماج اليهود في المجتمع المصري في ذلك الوقت. فهذا الفتى شالوم بائع يانصيب و رياضي وترجمان و يعمل في العديد من الحرف المنتشره في الحارة المصرية وقتها تربطه علاقة جيدة بجيرانه من المسلمين و المسيحيين ويحاول إرضاء الجميع و في الغالب يفشل
وهنا يراودني سؤال هل هذا ما كان يراه توجو مزراحي ام ما كان يتمناه
لأن طبيعة الشخصية اليهودية خلال هذه الفترة كانت تميل لحياة الجيتو تشعر بالخوف و تشك في كل من حولها
وعندما تريد أن تندمج في حياة أسرة مصرية وتضحك يأتي توجو مزراحي أول من جلب فكرة الثنائيات الكوميديه إلى السينما المصرية، من خلال أشهر فناني الكوميديا في تلك الفترة “فوزي الجزايرلي” المشهور بدور “المعلم بحبح” وزوجته “أم أحمد” التي لعبت دورها “إحسان الجزايرلي” في فيلم “المندوبان” عام ١٩٣٤، وقد حقق الفيلم نجاحاً كبيراً لم يتوقعه توجو مزراحي شخصياً، فقدم للثنائي الكوميدي فيلمين آخرين عام ١٩٣٥ هما “الدكتور فرحات” و”البحار”.
يشاهد مزراحي علي الكسار بشعبيته و نجاحاته على المسرح وهنا تلمع في ذهنه فكرة استغلال نجاح الشخصية بسلسلة نجاحات جديده فقدم مع علي الكسار، بشخصية عثمان عبدالباسط، الرجل النوبي البسيط، الذي كان رمزاً للكفاح والانتصار
و يقرر المنتج توجو مزراحي، أن ينقل شخصية عثمان، إلى شاشة السينما، من خلال عدد كبير من الأفلام، وقد كان الكسار اكبر مشجع لأن يتخلى توجو مزراحي عن اسم احمد المشرقي و يحتفظ بإسمه الحقيقي
استمر التعاون بينهما و أخرج مزراحي للكسار تسعة أفلام تتصف بحس الفكاهة منها”ميت ألف جنية” و”غفير الدرك” و”الساعة سبعة” ، وفيلم “التيليغراف” و”عثمان وعلي” و”ألف ليلة وليلة” و”علي بابا والأربعين حرامي” و”نور الدين والبحارة الثلاثة” ،
وقد استلهمت آخر ثلاثة أفلام من التراث العربى ولكن بنكهة مصرية، إذ أضاف إليها علي الكسار حس الكوميديا الساخر معتمداً على شخصية سيئة الحظ
ومع بداية الحرب العالمية الثانية، انتقل “مزراحي” إلى القاهرة واشترى ستوديو “وهبي” في شارع حسني بميدان الجيزة خلف سينما “الفنتازيو”، وسماه ستوديو “الجيزة” مع الاحتفاظ بستوديو توجو في الإسكندرية.
أسس “شركة الأفلام المصرية” واتخذ علم مصر شعارًا لها. يعد ستوديو الجيزة من أكبر الستوديوهات السينمائية في تلك الفترة، إذ أضاف إليه “مزراحي” غرف صناعة السينما، وغرفاً للممثلين، وغرفاً خاصة بالإنتاج والديكور والمكياج والصوت،
بالإضافة إلى قاعة لاستقبال الضيوف كما كان له الفضل في اكتشاف الفنانة “ليلى مراد” التي تعد أحد رموز الفن السينمائي والموسيقي في العالم العربي حتى وقتنا الحالي،
وقدمها للجمهور في فيلم “ليلة ممطرة” مع الفنان يوسف وهبي، كما أخرج لها أربعة أفلام أخرى، هي “ليلى بنت الريف” و”ليلى بنت المدارس”، و”ليلى” و”ليلى في الظلام” ،
وتعتبر تلك الأفلام بصمات فنية مميزة في بداية مسيرة الفنانة ليلى مراد، إذ فتح لها توجو مزراحي أبواب النجومية لتواصل سلسلة من النجاحات في مسيرتها السينمائية والغنائية.
تستمر مسيرة نجاح توجو مزراحي بإخراج وإنتاج أربعة أفلام يونانية للجالية اليونانية في مصر، إذ كانت تعد من أكبر الجاليات في مطلع القرن العشرين حتى الخمسينيات، وكانت تقام العروض الفنية اليونانية على المسارح المصرية وتكثر الأنشطة والمهرجانات الثقافية اليونانية في الإسكندرية تحديداً.
التقى توجو إحدى الفرق اليونانية المشهورة في تلك الفترة وتعاقد معها على إنتاج وإخراج فيلم طبق الأصل لفيلم “الدكتور فرحات” الذي أنتجه عام ١٩٣٥ ناطقاً باللغة اليونانية وتم عرضه في اليونان عام ١٩٣٧ ولاقى نجاحاً كبيراً.
وعندما نتحدث عن كوكب الشرق يطل علينا توجو مزراحي – وفيلم سلامه حيث أخرج وأنتج الفيلم وشاركها في
البطولة “يحيي شاهين” و”زوز نبيل” و”استيفان روستي” و”عبد الوارث عسر”. يعد “سلامة” أول فيلم تاريخي وتدور حوادثه في فترة الدولة الأموية، وعرض يوم ٩ أبريل ١٩٤٥ في سينما ستوديو مصر. ومع قرب نهاية حياته المهنية، أنتج مزراحي الكثير من الأفلام للعديد من المخرجين الشباب الواعدين ونجوم الفن و الإخراج مثل يوسف وهبي و نيازي مصطفى وحسين فوزي كما عمل معه حلمي رفلة لسنوات طويلة
اختفى توجو مزراحي من عالم السينما تدريجياً ابتداءً من عام ١٩٤٦ ثم هاجر إلى إيطاليا عام ١٩٤٩ بعد إعلان تأسيس دولة اسرائيل، حيث طالته أصابع الاتهام بالصهيونية.
فضل أن يهاجر إلى البلد التي انحدر منها أجداده، وظل اسمه على مدار ٤٠ سنة بين حضور وغياب، إذ كانت تنشر أخبار متقطعة عن عودته من روما واستعداده لمشاريع سينمائية جديدة. استمر بالعمل السينمائي في روما، ولم تنقطع علاقته بمصر إذ اشترك في مجلة المصور والكواكب لمتابعة الحركة السياسية والفنية فيها،
وذلك بالرغم من صعوبة تحويل اشتراكات المجلات في ذلك الوقت إلى مصر،
إلا أن “جورج بهنا” أحد منتجي السينما ساعده في ذلك. تعرض توجو في الستينيات لمشاكل صحية فانقطع عن العمل في مجال السينما تماماً، قبل أن يتوفى في ٥ يونيو ١٩٨٦ تاركاً بصمات لا تمحى من تاريخ وصناعة السينما المصرية.
طبتم وطابت اوقاتكم وإلى اللقاء في حلقه جديده قادمة واسهامات اليهود في المجتمع المصري