“هُـــــــوَ وَالْحَاضِــــرُ”
بقلم: تامر إدريس
بدأت حكايتي مع قرة العين وثمرة الفؤاد بمصادفة لم أحسب لها أي حساب فأنا لطالما كنت شخصا بلا هدف بلا رغبة بلا طموح يستسلم مرغما لتقلبات دنياه، لا يكترث لشيء مهما كبر قدره ولا لحدث مهما عظمت درجته، يقضي يومه بشكل نمطي رتيب دون أي تغيير يذكر، فهو يتغذى لينمو جسده وليتخلص من الشعور بالجوع لا استمتاعا بما يأكل ولا قصدا للتنوع في المطعوم ولا اشتهاء للأصناف
يشرب دونما ارتواء، ينام فقط ليتخلص مما بقي من يومه وعندما تنهك قواه فيغفو رغم أنفه، يومه كأمسه ومستقبله كحاضره هذا إضا افترضنا أنه سيكون له مستقبل أصلا. لم ينبض قلبه ولا لمرة واحدة نبضة عشق ولم تكن له من قبل فتاة أحلام وفق معايير خاصة.
لطالما تقوقع في حجرته، زاويته، صومعته، زنزانته الصغيرة، الضئيلة، المنزوية، والكئيبة. حياته بلا معنى واضح وأنفاسه بلا مردود ملحوظ. الكبت واللوم والانطواء والسكون أبرز سماته. حياة بقية الكائنات الحية كانت أعلى قيمة من حياته فمنها ما ينتج لنفع البشرية ومنها ما يمثل مادة خام أو غذاء لكائنات أخرى غيرها.
وذات يوم وعلى حين غرة ابتسم القدر لذلك البائس ونظر إليه أخيرا نظرة رضا. فالبدر الذي آلفه آفلا منذ نشأته قرر البزوغ في صفحة سمائه من جديد، والغيوم التي أتعست حياته بشكل شبه دائم تبددت أخيرا لتسطع شمس الحيوية في ذراته على النحو المنشود. ها قد ظهرت زهرة العمر في فضائه لينتعش بعبيرها الفواح كيانه الذي صار يتشكل من جديد. يخفق بحبها الفؤاد فينبض باسمها العذب الرنان أروع النبضات كمعزوفة عشق لا تنتهي ولا تمل منها الآذان. يدمن النظر إلى شفاهها المرمرية، يقبل جبينها الناصع، يسترق اللمحات مستهدفا وجناتها الوردية. يطرب لسماعها تتكلم بالساعات دون كلل أو ملل، يستعذب طريقة نطقها للمفردات حتى وإن لم يكن يفهم كثيرا من كلمات حديثها بسبب اللهجة الغريبة على أذنه، يحزن لغيابها عنه حتى ولو للحظة، يرقص قلبه شوقا وتوقا لطول اللقاء، يتطلع دوما للمزيد والمزيد من الاتصال بها ويتوسل إليها لكي تمنحه مكانة أكثر بقلبها.
صارت الحياة معها أكثر متعة، أكثر إثارة، أكثر حيوية حتى هو أصبح مفعما بالنشاط وأغنى بالهمة. يقضي جل يومه في البحث عنها ليهدأ خاطره، لترتوي روحه، ليسكن وجدانه، لتنتعش ذراته، وكأنها تبث الحياة في ذراته وترسل الأنفاس لرئتيه. هي وهي وهي فقط.
فاض قلمه في وصفها وفي التغزل بها كل لحظة كل ثانية كل دقيقة وكأنها شمسه التي يدور عالمه حولها، كأنها الأرض التي ينبت فيها أصله ويتفتح فيها فرعه، كأنها النسائم التي ينتعش بفضلها كيانه وكأنها السماء التي تظله من حرارة الضياء وتحنو عليه بقطرها الصافي المغيث لأديمه المتعطش لري الحياة. لأجلها يحيا وفي سبيلها يفنى، خدمتها برموش عينيه هدفه الأسمى وتموضعه عند قدميها نهجه الأقصى.
الحياة ليست مثالية دائما وكذلك الأنفس ليست مستقيمة على طول المدى. قد تحدث مشكلة هنا، أزمة هناك، فوضى أحيانا وتجاوزات أحيانا أخرى. تكرار الخطأ ذاته يوجب العقاب ولا يصلح معه الغفران ولكننا بشر ابتداء وانتهاء نحن مجرد حيوات اتصلت بها أفئدة تنبض لأشخاص وعقول تبذل جهدها في محاولة الاستحواذ على من تحب. الغيرة عنوان الحب والعشق محض امتلاك، أنا لحبيبي وحبيبي لي، أنا ملكه وهو ملكي. أزعجه إن غاب عني لأني أشتاق وأشتاق وأشتاق، مهما وصلني من ريه لا أرتوي ومهما منحني من رفده لا أشبع، هو زادي، سقائي، دوائي، شفائي، معيني، عمري، دنيتي، كياني. هو الحياة والأحياء، هو البنيان والكيان والموجودات، هو النبض والحرف، هو الذرات والجزيئات، هو المبنى والمعنى، هو الأنفاس والدماء، هو الحب والعشق، هو الوجود والإشراق، هو الصفاء والعطاء، هو البريق والضياء، هو حبيبي، طبيبي، رفيقي، خليلي، نديمي، عشقي، حبي، فردوسي، وضميري.