في ذكرى الجنوبي
بقلم: أسامة حراكي….
الجنوبي..هي الصفة التي التصقت به بعد قصيدته التي حملت هذا العنوان، فهو محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل، ولد في عام 1940 بقرية القلعة بمدينة قنا، وقد كان والده عالماً من علماء الأزهر الشريف مما أثر في شخصيته ولغته وقصائده، ولد بنفس السنة التي حصل فيها والده على اجازة عالمية فسماه باسم أمل تيمناً بنجاحه، وكان يمتلك مكتبة تضم كتب الفقه والشريعة والتفسير مما أثر فيه وساهم في تكوينه كشاعر.
فقد أمل والده وهو في العاشرة من عمره مما أثر عليه كثيراً وأكسبه مسحة من الحزن نجدها في كل أشعاره، وبعد أن أنهى دراسته الثانوية في قنا سافر إلى القاهرة والتحق بكلية الآداب ولكنه إنقطع عن الدراسة منذ العام الأول لكي يعمل، فعمل موظفاً بمحكمة قنا ثم جمارك السويس والإسكندرية، ثم بعد ذلك موظفاً بمنظمة التضامن الأفرو آسيوي، ولكنه كان دائماً ما يترك العمل وينصرف إلى كتابة الشعر.
عاصر ثورة 1952 وأحلام العروبة مما ساهم في تشكيل وجدانه وقد صدم ككل المصريين بانكسار1967 وعبر عن صدمته في رائعته “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” ديوانه الأول الذي جسد فيه إحساس الإنسان العربي بنكسة 1967 وأكد ارتباطه العميق بوعي القارئ ووجدانه، ثم جاء عمله الثاني “تعليق على ما حدث” حيث شاهد بعينيه النصر وضياعه ووقف مع كل من وقفوا ضد معاهدة السلام، وكتب رائعته “لا تصالح” والتي عبر فيها عن كل ما جال بخاطر المصريين والعرب الشرفاء، ونجد أيضاً تأثير تلك المعاهدة وأحداث 18 و19 يناير 1977 واضحاً في مجموعته “العهد الآتي” وكان موقفه من عملية السلام سبباً في اصطدامه مع السلطة وقتها وخاصة ان أشعاره كانت تردد في المظاهرات.
عبر دنقل عن مصر وصعيدها وأهلها، ونجد هذا واضحاً في قصيدته “الجنوبي” في آخر مجموعة شعرية له “أوراق الغرفة 8”.
صدرت له ست مجموعات شعرية هي:
“البكاء بين يدي زرقاء اليمامة 1969، تعليق على ما حدث 1971، مقتل القمر 1974، العهد الآتي 1975، أقوال جديدة عن حرب بسوس 1983
أوراق الغرفة 8 – 1983″.
بعد 9 أشهر من زواجه، اكتشف الأطباء وجود ورم في جسده،وحددوا موعداً لإجراء الجراحة فانشغل الزوجان عن الخوف من المرض بتدبير المبلغ المطلوب للعملية، وهذا ما روته زوجته الكاتبة عبلة الرويني في كتابها الجنوبي، وتصف فيه كيف انكشف لهم معدن الأصدقاء، وكيف رفض أمل بيع خاتم الزواج الماسي، لأنه ثمن أرضه التي باعها في الصعيد، وحين أصرت على بيعه هدد بعدم الخضوع للعملية، ثم استطاعا تدبير 500 حنيه من عدد من الأصدقاء ومن بينهم صديق شديد الثراء دفع منهم 200 جنيه، ثم صدر قرار من صندوق الفنانين في وزارة الثقافة بتغطية نفقات العلاج، وتم ارسال النفقات على مراحل، فقاموا برد المبالغ المستدانة ما عدا الـ 200 جنيه حيث قبض صاحبه أضعافه، وبعد 5 أشهر من الجراحة ظهر ورم سرطاني آخر، فطالب بعض الأدباء من اتحاد الكتاب علاجه، فوافق رئيس الاتحاد وقتها الكاتب ثروت أباظة على أن يتقدم المريض بالتماس، فلم يقدموا التماساً، فصدر قرار من وزير شئون مجلس الوزراء بعلاجه على نفقة الدولة، في الدرجة الثانية من دون مرافق بنفقات قدرها 1000 جنيه، وكان قرار سخيفاً، وحين أتته مشاركات الأصدقاء على شكل مساعدات لتغطية نفقات العلاج، بكى من العجز والمرض والعذاب، واختفاء معظم الأصدقاء حين كان في أمس الحاجة إليهم.
وتتضح معاناته مع المرض في مجموعته “اوراق الغرفة 8” وهو رقم غرفته في المعهد القومي للأورام والذي قضى فيه ما يقارب الـ 4 سنوات، وقد عبرت قصيدته “السرير”عن آخر لحظاته ومعاناته، وهناك أيضاً قصيدته “ضد من” التي تتناول هذا الجانب، وكانت آخر قصيدة كتبها هي “الجنوبي” وكان أقرب أصدقائه عبد الرحمن الأبنودي و د. جابر عصفور وأحمد عبد المعطي حجازي الذي قال عن مرضه انه صراع بين متكافئين، الموت والشعر، حيث لم يستطع المرض أن يوقفه عن الشعر، إلى أن رحل عنا يوم21 مايو عام 1983 ومن أجمل ماكتب اخترت لكم مقطع من قصيدة لا تصالح:
لا تصالحْ
لا تصالح على الدم.. حتى بدم
لا تصالح ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ
أقلب الغريب كقلب أخيك
أعيناه عينا أخيك
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك
لا تصالحْ
ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخْ
والرجال التي ملأتها الشروخْ
هؤلاء الذين يحبون طعم الثريدْ
وامتطاء العبيدْ
هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم
وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخْ
لا تصالحْ
فليس سوى أن تريدْ
أنت فارسُ هذا الزمان الوحيدْ
وسواك.. المسوخْ
لا تصالح.. ولو منحوك الذهب
ترى إن فقأتُ عينيكَ..
و ثبتتُ مكانهما جوهرتين
هل ترى؟
هي أشياءٌ لا تُشتَرى…