عطاء تكليف لا تشريف
بقلم: أسامة حراكي
الهيراطيقية نوع من الكتابة المصرية القديمة كتبت برموز مبسطة للرموز الهيروغليفية الأصلية، ولما كانت الهيروغليفية غير ملائمة للكتابة السريعة، نشأت طريقة مختصرة للكتابة للأغراض العملية هي ماعرف بالهيراطيقية، حيث حل كل رمز فيها محل الهيروغليفية الأصلية…
هناك شخصيات أسهمت في تشكيل وعيي ووجداني، بعضها مات قبل ولادتي والبعض عاصرتهم قبل أن يرحلوا، أولئك الكتاب العظام الذين قرأت لهم صغيراً أو يافعاً كانت كتاباتهم بالنسبة لي مصابيح الهدى وقناديل النور ومفاتيح أبواب الكتابة.
كٌتاب وشعراء كثيرين أثناء مسيرتهم الأدبية والشعرية تعلمنا منهم وانبهرنا بهم، كانوا أساتذة حقيقيين درسوا الكتابة والشعر من دون سبورة عبر كتاباتهم ومنحونا ذلك بسخاء، شكلوا وجدان الكتابة لعدد غير قليل من الأجيال، فالمبدع إنساناً يغرف من التجربة الإنسانية الواسعة الشاملة، وإذا حاول بعض القراء أن يتلمسوا مواضع الإعترافات الشخصية بين سطور أي نص، فهذه مشكلتهم لا مشكلة الكاتب، كيف يمكن لأي قلم حر أن يخط حرفاً إذا كان يضع نُصب عينيه السؤال التالي: “ماذا سيقول فلان أو فلانة إذا قرأ هذا النص”.
فكل كتابة لابد أن تتضمن شيئاً من تجربة كاتبها، وحتى الذين يكتبون عن شخصيات بعينها، فإنهم يضعون شيئاً من ذواتهم تحت جلود تلك الشخصيات، وكما تقول الكاتبة الفرنسية “آني إرنو” الحائزة على جائزة نوبل للأداب 2022: “ليست وظيفة الكاتب طمس جرح أو علاجه، إنما إعطاؤه معنى وقيمة وجعله في النهاية لا ينسى” .
فبعض الكُتاب يحاولون في كتاباتهم إثبات الذات عن طريق الإبداع وليس عن طريق الدعاية، وبعض الكتاب والشعراء يكتبون شعرهم وخواطرهم بالعابرات على الطريق من دون معرفة، بمضيفة طيران خلال رحلة أو بنادلة مقهى تقدم ابتساماتها للزبائن، وكأن الزوجة ظاهرة اجتماعية بجدارة، بينما الحبيبة ظاهرة عاطفية بامتياز.
ويتأثر الكاتب بطبيعته بمجمل ما يحيط به من جوانب ثقافية وغيرها، والكُتاب الذين يكون الهاجس الأساسي لديهم في كتاباتهم هو الإنسان والتأكيد على إنسانيته، تكون أعمالهم معبرة عن هموم الناس وطموحاتهم، ولا يستخدمون البهرجة الجمالية فيها، بل يخلقون علاقة بين آمال وهموم الناس، سواء كانوا هؤلاء الناس مدركي لماساتهم أم غير مدركين، فالكاتب المثقف يدرك مآسي الناس فيعطي رؤية أكثر بعداً وشمولية في كتاباته، فالتعبير عن مآسي الناس هو استعداد نفسي وثقافة وتجربة، ومثال على ذلك “نجيب محفوظ” في كتاباته غاص بالمحلية المصرية فوصل إلى العالمية.
إن الكتابة عملية زئبقية وليس كما يظن البعض أنها عبارة عن حبر وخطوط على ورق، بل هي نشاط فكري واستجابة داخلية للنفس، فالكتابة كسائر شؤون الحياة، هي ينبوع حب كامن ينكشف إبداعاً بوصفه كمال التناغم اللامتناهي بين مكونات الوجود، وأي كاتب لا يستطيع أن يعتزل الكتابة مهما كانت مبرراته، تماماً كصاحب المهنة الحاذق في مهنته، قد يتوقف لبعض الوقت ولكن ليس كل الوقت.
فالكتابة ليست فقط موهبة ربانية، إنما هي أيضاً عملاً فيها صنعة وحرفة واجتهاد، وليست مقدساً ولا تأتي دفقة واحدة بل على مراحل، ولا بد أن يكون هناك محفزات، فكل ما يحيط بنا يحفزنا إلى الكتابة، فالوضع السياسي، والوضع الإجتماعي، والوضع الإنساني، والأحلام… كل هذا محفزات، فتأتي الكتابة في صورة مادة خام، نخزنها حتى يأتي يوم نكون في لياقة ذهنية نبدأ برسم الرتوش وحين ننتهي نضيف الملامح النهائية.
الكتابة هي الروح والمعنى والتفسير، وكل الأمور التي تؤدي للدهشة، ومؤشر حضور في الزمن، وهي سعادة وجمال ومحبة، هي المساحة التي ولدنا في داخلها ولن نخرج منها أبداً، لذلك تبرز كتاباتنا على هيئة زمن متحرك لا يستقر في مساحة أخيرة، فحين تدخل الكتابة في المساحة الخاصة بالإنسان، تتجه الحياة إلى إتجاهات أخرى ومختلفة، فالكتابة هي فعل تحول هائل يعيشه الإنسان، وحين يدخل إلى مناخ هذا التحول ترتفع الصور الناطقة في مختلف ميادين الزمن، وهي هبة إلهية يجب أن نغتنمها في صقل جوهرنا الإنساني وخدمة الآخرين والتواضع لهم، وهي عطاء تكليف لا تشريف، تقتضي من الموهوب فيها أن يتصرف مع الآخرين بوصفه شخصاً طبيعياً لا يفوقهم أو يتميز عنهم بشيء، حتى في الترجمة ما يميز مترجم عن سواه، هو من يعايش ما يترجمه على المستوى الروحي والنفسي والوجداني، لكن تبقى قراءة أصل الكتاب بلغته أفضل حتى ندخل أكثر إلى روحية الكاتب وخصوصيته، لأن الترجمة أحياناً تُفقد الكاتب وكتابه بعضاً من الخصوصية، فعلى الكٌتاب والمترجمين الجدد أن يعدوا ويؤهلوا أنفسهم جيداً لممارسة الإبداع باستيعاب التراث السابق جيداً والاتكاء على ثقافة عميقة تكون المنطلق لإبداعهم الجديد.
ولكل إنسان هاجس يحاول التعبير عنه بشتى الوسائل، وعند الكٌتاب محاولة دائمة للتعبير عن هذه الهواجس، ففي الموضوع الواحد يستطيعوا أن يبرزوا الهاجس وإظهار ما يغلي بداخلهم من جميع جوانبه، فموقف الكُتاب دائماً من الإنسان والحياة هو موقف يميل إلى التعبيرية، فالعمل في الرواية يبدأ مع الكاتب عندما يتكلم عالمه الداخلي مع العالم الخارجي، عندها تبدأ الفكرة تتبلور في عقله، فتتطابق ذاته الداخلية مع الرغبة والإنفعالية، فتبدأ بالظهور بعملية الكتابة وتفريغها على الورق، فالبعض يكتب الروايات وحين تحويلها إلى عمل فني فإن الرقابة على المصنفات الفنية ترفضها حتى من دون إبداء الأسباب، ومن يريد ان يحلل عدم تقديم أعمال فنية فعليه أن لا يتهم المبدعين بالتقصير، لأن المتهم بالتقصير هنا هو الإجراءات وآلية التفعيل، فداخل كل إنسان كاتباً مستتراً تسهم الأيام في خروجه إلى العلن، أو في دفنه إلى الأبد.
بمجرد فرض الحظر على شيء ترتفع قيمته ويزداد الطلب عليه، وهذا ينطبق على الكتب تحديداً، فبعض الكتب نشرت وتعفنت وتراكم عليها الغبار لسنوات، واستعادت عافيتها ودبت فيها الحياة بعد أن كتب عنها ناقد ما، واصفاً إياها بالإباحية أو مناهضة الدين، مانحاً إياها صك الظهور والانتشار، أيضاً يزداد الطلب والإقبال أكثر وأكثر حين يتولى محام مغمور مهمة إصدار حكم قضائي لمنعها، فتتوالى الطبعات على غلاف الكتاب بشكل محموم ويلمع اسم المؤلف ويعلو نجمه…
هناك كاتب بالصدفة التقى ببطلت حكاياته وأحلامه وعلم إلى أين أخذتها الأقدار، وكيف تزوجت وانجبت، هو لم يتزوج لكنه أنجب كٌتب كلماتها تشبهها تماماً كأنها أمهم.. هكذا الكتابة حين تسرق أعمارنا.