الشهيد الحي رقم ” ٦ ” في ذكري العاشر من رمضان القصة كاملة من الإصابة إلى اللقب نقيب قوات جوية سعيد الصباغ
حوار ومتابعة غادة سيد
شرفني سيادته بقبول إعطائي جزءا ثمينا من وقته.
وتلك شيم الأبطال المعطائين المتواضعين.
طلبت منه أن يحكي لي قصته الكاملة في حرب العاشر من رمضان السادس من أكتوبر إلى أن حصل على لقب الشهيد الحي. اللقب الذي لم يحصل عليه إلا ستة أفراد فقط من القوات المسلحة.
هالني ما سمعته من قصتة. القصة التي بها كم هائل من الإثارة و الدهشة ولا تخلو طبعا من فيض جارف من التضحية والفداء و الإيثار؛ ليست غريبة عن أبطالنا العظماء وما يقدمونه للوطن على مر الأزمان وحتى هذه اللحظة.
أعترف أن عيني ذرفت دمعا ساخنا بحرارة الدماء التي سالت وتسيل على أرض سيناء وحدودنا المختلفة في الأرض والبحر والجو.
لن أطيل عليكم. إليكم القصة كاملة على لسان صاحبها وبيده الكريمة التي تشرَفت يوما بحمل السلاح في مواجهة العدو المغتصب لتبقى هامة مصر مرفوعة في عنان السماء وليظل شعبها كريما محفوظا بحفظ الله و تضحيات أبناء الوطن الشرفاء.
يقول:
” بسم الله الرحمن الرحيم
كل عام ومصر وشعبها بألف خير بمناسبة ذكرى حرب التحرير.
احدثكم باختصار عن قصة الشهيد الحي رقم ” ٦ “:
بدأت المعركة يوم السادس من اكتوبر ١٩٧٣
وكنت ضابط احتياط قائدا لموقع ٣ بالخطوط الأمامية بخط النار المواجه لمواقع العدو مباشرة وقد تم اختياري مع بعض الرفاق نظرا لتفوقي في عدة مشاريع حربية وحصولي على رتبة نقيب مكافأة لي. كل ذلك قبل بداية الحرب.
اما لقب الشهيد الحي فقد حصل عليه
ستة أبطال وهو لقب يناله كل من أشرف على الموت وتم اكتشافه حيا قبل الدفن. وكان أول من حصل عليه هو البطل العظيم عبد الجواد ابو سويلم بالإسماعيلية
وكنت أنا رقم ٦ أي الاخير، لأن إصابتي كانت قبل وقف إطلاق النار بساعات قليلة.
تفاصيل الإصابة:
في يوم ٢١ اكتوبر الساعة العاشرة صباحا كنا مرابضين وعلى أهبة الاستعداد للهجوم عليهم والدفاع عن موقعي. كان معي ١٨ جندي وصف تحت قيادتي وقد كان ذلك قبل وقف إطلاق النار بيوم واحد..
فوجئنا بطيران العدو يحلق فوق رؤوسنا
فاشتبكَت معه المدفعية واسقطَت له طائرتين ولكن قامت طائرة ثالثة بإسقاط مظلات للقضاء علينا فاشتبكنا معهم انا وزملائي المقاتلين وقتلنا منهم ما يقرب من ١٤ جنديا واستشهد منا ٤ ابطال.
فوجئت بجندي يصرخ قائلا : إلحق يافندم يوسف اتصاب. زحفت على بطني وسلاحي معي في اتجاهه فأشار لي بعدم الاقتراب لأنه في مرمَى نيران العدو. شاهدتُ الدماء تنزف من رقبته بغزارة وهو رافع بندقيته ويطلق النار عليهم
فقتل منهم اثنين قبل أن يستشهد وهو ممسك بسلاحه.
ثم هربت طائرة العدو معتقدة أن قوات كبيرة تطلق عليها النار ولم يكن سوى يوسف البطل فقط هو من يطلق النار..
أسرعتُ إليه واغمضتُ له عينيه ونطقت
الشهادتين على روحه ثم رفعته على كتفي
وجريت به قبل أن يأتي طيران العدو مرة أخرى..
فعلت ذلك لأنهم كانوا يأخذون الجثث إلى إسرائيل ويقومون بتصويرها مدعين أنهم انتصروا علينا وهم كاذبون فحرمتهم من الاستيلاء على جثة البطل يوسف..
أثناء الجري رافعا الجثة على كتفي حلق طيران العدو وشاهدني فأطلق النار علينا فأصبت انا بطلقة في ذراعي الأيسر وطلقتان في جثة يوسف!!
إختبأت به خلف دشمة طيران تابعة لنا إلى أن أسقطت مدفعيتنا الطائرة..
ثم جاءت عربة الجثث وأخذت جثة يوسف وعربة الإسعاف أخذتني وكان معي بالاسعاف ٥ مصابين والسائق والمسعف.
وعند تحركنا إلى خارج القاعدة الحربية دخل طيرانهم وأطلق صاروخا تجاهنا فانفجرت الإسعاف واستشهد كل من بها، بمن فيهم السائق والمسعف عدا أنا أصبت في جانبي الأيسر وساقي ورأسي من الخلف، فأصبحت بي ٤ إصابات قاتلة. كنت ممدا على الأرض والدم ينزف مني بغزارة حتى أغمى عليَّ تماما وأثناء مرور قائد القاعدة بالسيارة مع جنوده شاهدوا كتلة حمراء ملقاة. كنت أنا هذه الكتلة فأخذوني سريعا إلى مستشفي الجبهة بالسويس ومكثت ٨ ايام بالعناية المركزة حتى قرروا في النهاية استشهادي واستخرجوا لي شهادة وفاة.
وبعد أن تم غسلي وتكفيني والصلاة على جثماني أدخلوني مع الجثث حتى تأتي السيارة المخصصة للموتي لاصطحابنا
إلى المقابر الجماعية..
وعند.رفع جثماني إلى العربة، شعرالعامل المختص برفع الجثث بحرارة في جسدي فقام بإبلاغ مدير المستشفى ونقلوني على الفور للعناية المركزة مرة أخرى لمدة يومين وبعدها تم ترحيلي إلى مستشفي الطيران بالقاهرة لاستكمال علاجي مع مجموعة تقارير من مستشفى الجبهة منهم تقرير يوصي ببتر ذراعي الأيسر من الكوع نتيجة الإصابة الخطيرة به.
فأمسك الدكتور محمد أحمد رامي التقرير وكتب عليه :
(اليد التي حملت السلاح لتحرير الوطن وردت لنا كرامتنا لن تبتر ولكن يجب أن نُقَبلها ولانقطعها ..) وبالفعل بذل مجهودا كبيرا حتى لايتم بتر ذراعي.
مكثت بالمستشفى مايقرب من شهرين تم إجراء ٤ عمليات جراحية لي ثم تفاجأت أثناء خروجي من المستشفي بعد شفائي وذراعي لايزال في الجبس أن وزير الصحة يصدر تعليماته بتجهيز عربة إسعاف خاصة لنقلي من المستشفى بالقاهرة إلى منزلي بالإسكندرية بكرموز وجاء الوزير خصيصا ليودعني و قد احتضنني و قبلني وأبلغني تحية
الرئيس السادات ووزير الدفاع لي.
فبكيت من الفرحة بهذا التقدير العظيم. يالها من لحظة ردت لي الاعتبار والروح وبالفعل وصلَت بي الإسعاف إلى بيتي ولا أستطيع ان أصف روعة استقبال أهالى كرموز الذين احتشدوا لاستقبالي من أول شارع خوفو حتى آخره إلى أن وصلت للمنزل بالغناء والزغاريد والكلمات الطيبة من مئات
المحتشدين.
لحظة لن انساها في حياتي.
ثم عدت لاستكمال دراساتي العليا
“الماچيستير” والتي توقفت في يناير ٧٣ بتعليمات من رئيس الجمهورية بوقف الدراسات العليا على مستوى كل جامعات مصر إيذانا بتجنيدنا استعدادا للحرب التي لم يعلن عنها فقد كانت الحرب في سرية تامة.
ثم في عام ١٩٨٠ قام الاخ والصديق العزيز صبري ابو علم ولم أكن اعرفه وقتها ولا يعرفني لكنه عرف بموضوعي من السجلات العسكرية وإدارة التوجيه المعنوي من أصدقائه هناك حيث أنه كان أحد أبطال البحرية في حرب الاستنزاف وأكتوبر فسعى كثيرا في موضوع حصولي على لقب الشهيد الحي رقم ٦ ووافق وزير الدفاع سريعا على هذا الطلب
ووافقَت كل الجهات المعنية وحصُلت عليه معتمَدا من القائد الأعلى للقوات المسلحة رئيس الجمهورية. وتم عمل حفل لي بالقاهرة مع زملائي الحاصلين على نفس اللقب وبحضور صبري ابو علم الذي وجهت له الشكر والتحية على ماقام به تجاهي.
وقد حكى صبري ابو علم هذا الموضوع لصديقه المخرج السينمائي محمد الدخاخني والذي مازال على قيد الحياة أطال الله عمره.
رحم الله كل رفاقي شهداء الواجب في حرب
العزة والكرامة واطال الله عمر من لا يزال على قيد الحياة.
هذه خطوط عريضة بإيجاز لأحداث يطول التحدث والكلام عنها
اشكرك أستاذة غادة على مجهوداتك
الطيبة بارك الله فيكٍ وفي روحك الراقية وفي اسرتك الطيبة.
اشكرك من كل قلبي.
كل الشكر للقائد البطل الشهيد الحي رقم ٦ نقيب قوات جوية سعيد الصباغ. و قبلات العرفان والامتنان على راس سيادتكم أن شرفتنا بسماع قصتكم الملهمة والتي ستكون نبراسا ينير الدرب للأجيال القادمة. فنعم القدوة ونعم المثل الأعلى سيادتكم.
ألف شكر.