مشاهدات: 122
نظرية الدبلوماسية الموازية paradiplomacy في حقل العلاقات الدولية
تعد نظرية الدبلوماسية الموازية من النظريات الجديدة في حقل العلاقات الدولية، شأنها في ذلك شأن التحوط الاستراتيجي، إلا أنها تعد ظاهرة قديمة في الممارسة الدولية.
وتشير الدبلوماسية الموازية في أبسط معانيها وصورها إلى انخراط الأقاليم أو الوحدات دون المستوى الوطني، أو الوحدات دون القومية في الشئون الخارجية.
فكما هو معروف تنقسم أي دولة إلى مستويين للحكم، وهما: مستوى الحكومة المركزية، ومستوى الوحدات المحلية، وهذا المستوى الثاني الذي يلي الحكم المركزي يسمى عادةً بالمستوى دون الوطني، أو المستوى الإقليمي أو المحلي.
ففي دولة الإمارات العربية المتحدة، مثلاً، نجد أن المستوى التالي للحكم المركزي يتمثل في الوحدات والكيانات السياسية التي تشكل في مجملها الإمارات العربية، وعددها سبع إمارات؛ دبي، أبو ظبي، الشارقة، عجمان، أم القيوين، الفجيرة… الخ.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية كذلك نجد أن المستوى الوطنى تمثله الحكومة أو الإدارة الأمريكية ومقرها العاصمة واشنطن دي. سي، بينما المستوى الإقليمي أو دون الوطني تمثله الولايات الأمريكية الخمسين، مثل ولاية كاليفورنيا، نيويورك، فلوريدا… الخ.
وفي ضوء ما سبق يتبين لنا أن الدبلوماسية الموازية تتصل بانخراط أو انغماس الوحدات دون المستوى القومي في الشئون الخارجية، وأن هذه الوحدات تأخذ مُسميات مختلفة حسب التقسيم الجغرافي والإداري لكل دولة،
فهي قد تكون محافظات كما هو الحال في مصر، وقد تكون ولايات في أمريكا، أو مقاطعات في كندا، أو كانتونات في سويسرا، أو أقسامًا في فرنسا، أو جمهوريات في روسيا مثل جمهورية الشيشان.
والدبلوماسية الموازية، كما أسلفنا، ليست ظاهرة جديدة على العلاقات الدولية، لكن جدتها تنبع من كونها لم تُدرس ولم يُنظر لها إلا مؤخرًا.
وتعود أول دراسة منتظمة تناولت الدبلوماسية الموازية إلى منتصف ثمانينيات القرن الماضي، على يد باحث أمريكي يدعى «دوشاسيك» حين نشر مقالاً بعنوان «السيادة المثقوبة»
تحول بعد ذلك إلى كتاب حمل العنوان نفسه. وقد حاول دوشاسيك في هذه الدراسة التأكيد على أن الأقاليم أو الوحدات دون المستوى الوطني قد وجدت طريقها للانخراط على الساحة الدولية على الرغم من سيادة الدول واحتكارها المطلق والحصري لقضايا الشئون الخارجية.
ثم توالت بعد ذلك دراسة الدبلوماسية الموازية بشكل علمي منتظم في حقل العلاقات الدولية من خلال مؤلفات أخرى، يأتي في مقدمتها دراسة بعنوان «الوحدات الفيدرالية والعلاقات الدولية» شارك فيها الأمريكي «دوشاسيك» مع باحث كندى آخر يدعى «سلوداتس»، وهو ما ساهم في تعزيز مكانة هذه النظرية بين النظريات الأخرى في السياسة الدولية.
في ضوء ما سبق نخلص إلى القول بأن دراسة الدبلوماسية الموازية يعد أمرًا جديدًا في العلاقات الدولية ويرجع إلى منتصف ثمانينيات القرن العشرين،
إلا أن الممارسة العملية لهذه الظاهرة كانت موجودة وتعود إلى ما قبل هذا التاريخ بوقت طويل. ويمكن أن نعضد ذلك بسرد مجموعة من الأمثلة التاريخية التي تؤكد قدم هذه الظاهرة في مجال الممارسة الدولية،
وذلك على النحو الآتي:
١- كان إقليم الباسك في شمال اسبانيا منخرطًا في الشئون الخارجية منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
٢- مقاطعة كيبك الكندية كانت علاقات خارجية قبل أن يكون لكندا نفسها سياسة مستقلة. فقد طورت حكومة هذه المقاطعة علاقاتها بفرنسا، وأصبح لها ممثلاً عامًا في باريس منذ عام ١٨٨٢، بل إن تبلور النشاط الخارجي لكيبك سبق بدء الأنشطة الخارجية للحكومة الكندية. ولكن البداية الحقيقية والمؤسسية للعلاقات الخارجية لمقاطعة كيبك تعود إلى منتصف الستينيات من القرن الماضي، حيث طورت كيبك منذ هذا التاريخ نمطًا متميزًا من الدبلوماسية الموازية.
٣- بعد الحرب العالمية الثانية بدأت الحكومات المحلية في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية بالانخراط في الشئون الخارجية من أجل أن يكون لها نصيب في جهود الإعمار، فعقدت الحكومات المحلية في فرنسا اتفاقات توأمة مع نظيراتها في ألمانيا بهدف تعزيز الجهود الرامية إلى تحقيق التعايش السلمي بين البلدين.
٤- أصبح للولايات الجنوبية في الولايات المتحدة الأمريكية نشاطًا دوليًا منذ اواخر خمسينيات القرن المنصرم، كما طورت الولايات الشمالية أنشطتها الدولية فيما بعد، وتحديدًا في فترة السبعينيات، من أجل الترويج لصادراتها بالخارج وجذب الاستثمارات الأجنبية.
٥- اصبحت حكومات الأقاليم في كل من بلجيكا، اسبانيا، وألمانيا نشطةً في مجال السياسة الدولية منذ عقد الثمانينيات.
٦- وفي منطقة الشرق الاوسط، وفي منطقتنا العربية على وجه الخصوص، برز اسم «امارة دبي» و إقليم «كردستان العراق» كنموذجين نشطين للحكومات المحلية على الساحة الدولية، فقد طورتا من أنشطتهما الخارجية لجذب الاستثمار ورؤوس الأموال الأجنبية، واصبحتا اليوم في مقدمة حكومات الأقاليم التي تمارس نمطًا متقدمًا من الدبلوماسية الموازية. حيث يرجع انخراط إقليم كردستان العراق في السياسة الدولية إلى تأسيس الدولة العراقية في عشرينيات القرن الفائت، عندما طورت الحركة القومية الكردية علاقات خارجية مع دول الجوار، وشرعت في تعزيز علاقاتها بالدول الكبرى، كالاتحاد السوفياتي السابق، من أجل دعم جهود الأكراد في تأسيس واقامة دولة كردية مستقلة في شمال العراق.
وفي ضوء الطرح السابق، يتضح لنا أن هذه الظاهرة، أي ظاهرة انخراط الأقاليم والوحدات دون المستوى القومي، مهمة للغاية في العلاقات الدولية.
ولقد اطلعت علي العديد من الدراسات التي تناولت الامكانات الاقتصادية لعدد من هذه الأقاليم حول العالم، وخلُصت هذه الدراسات إلى أن الأهمية الاقتصادية لهذه الأقاليم تفوق المقدرات الاقتصادية لعشرات الدول المستقلة. فعلى سبيل المثال،
نجد أن ولاية كاليفورنيا التابعة للولايات المتحدة الأمريكية تُصنف ضمن فئة المستوى الأول في الدبلوماسية الموازية،
حيث تنخرط كاليفورنيا في علاقات اقتصادية معقدة مع دول أمريكا اللاتينية، والصين، وكندا، وعدد من دول أوروبا، كما أن حجم الناتج المحلي لهذه الولاية يجعلها في مرتبة متقدمة ضمن قائمة أكبر ١٠ اقتصادات في العالم، في حال افترضنا أن كاليفورنيا دولة مستقلة.
والأمر كذلك ينطبق على إقليم «كوانزو» الصيني، الذي يساهم بنسبة كبيرة في إجمالي الناتج المحلي للصين، وهناك أيضًا إقليم «هونج كونج» الذي يعد مثالاً آخر على تنامي دور الأقاليم في السياسة الدولية، وكذلك إمارة دبي التابعة لدولة الإمارات العربية المتحدة،
والتي يُطلق عليها أحيانًا «الإمارة المدينة» فعلى الرغم من افتقار هذه الإمارة إلى مقومات الجذب السياحي التقليدية، المتمثلة في الآثار والعناصر المادية الآخرى للحضارات القديمة، إلا أن عدد السياح الذين يقومون بزيارتها كل عام يفوق بكثير عدد الزائرين الذين يقصدون دولاً أخرى كمصر.
وكيف أن شركة موانئ دبي تخوض اليوم تجارب عديدة للاستثمار في قطاع الموانئ البحرية في دول مختلفة حول العالم. وعليه لا يمكن أن نتغافل أو نتجاوز أهمية انخراط الأقاليم دون المستوى الوطني في شئون السياسة الدولية، على الصعيد السياسي، أو الاقتصادي، أو الثقافي والاجتماعي.
وينبغي هنا أن نفرق بين مفهوم الدبلوماسية الموازية والدبلوماسية بمعناها العام، فالدبلوماسية الموازية لا ترتبط ولا تشير إلى الدبلوماسية العامة التي تمارسها الدول والحكومات فيما بينها، ولكنها تشير إلى انخراط الأقاليم أو الوحدات ما دون المستوى الوطني في العلاقات الدولية، من خلال إقامة اتصالات مع كيانات خارجية عامة أو خاصة.
■ تطور الدبلوماسية الموازية
يرى بعض الباحثين أن الدبلوماسية الموازية مرت في تطورها بثلاث مراحل أو موجات، تفاصيلها على النحو الآتي:
أ- المرحلة أو الموجة الأولى
وقد ظهرت هذه المرحلة في ثمانينيات القرن المنصرم، حيث كان هناك تزايدًا في عدد الأقاليم التي تسعى لجذب الاستثمارات الأجنبية، وقد تحقق ذلك من خلال مبادرات الأقاليم نفسها،
وفي الغالب تم استخدام الثقافة والهوية من جانب حكام الأقاليم كمرتكز لوضع أنفسهم على الخريطة الدولية. وفي إطار هذه الموجة وُجهت الأنشطة الخارجية للأقاليم غالبًا لتحقيق غرض محدد، وهو الغرض الاقتصادي.
ب- المرحلة أو الموجة الثانية
في تسعينيات القرن الماضي اكتسبت ظاهرة انخراط الأقاليم في الشئون الخارجية بروزًا متناميًا، وأبعادًا جديدةً، واتسع نطاقها وتزايدت كثافتها ومستوى مؤسسيتها بصورة كبيرة، واتسمت هذه الموجة الثانية بتصميم مجموعة من الأدوات أو الميكانزمات من جانب الأقاليم لتفسير وتبرير سياساتها الخارجية،
كما قامت الأقاليم خلال هذه المرحلة بإنشاء أجهزة أو مؤسسات، وربما وزارات منفصلة مسئولة عن إدارة هذه الأنشطة الخارجية وتفسيرها.
ج- المرحلة أو الموجة الثالثة
وهي الموجة الحالية للدبلوماسية الموازية، وتتسم باتخاذ خطوات باتجاه مزيد من احكام الهيكل التنظيمي للدبلوماسية الموازية، وهذا الهيكل التنظيمي يعني المؤسسات والأجهزة والإدارات التي تتولى انشائها حكومات الأقاليم بهدف تسيير وتيسير شئونها الخارجية،
وبدأت الأقاليم في إعادة هيكلة استراتيجية عامة لتحديد وظائفها ومسئولياتها في الخارج وتحقيق أولوياتها، وعوضًا عن امتلاك تلك الأقاليم لعدة أجهزة ومؤسسات مسئولة عن إدارة الشئون الخارجية، فإنها قامت بدمج كل ذلك في كيان كلي من خلال تأسيس إدارة موحدة.
كما بدأت الأقاليم خلال هذه المرحلة بالتشبيك، أي اقامة علاقات متشابكة مع المنظمات الدولية، كالاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، ومنظمة آسيان في جنوب شرق آسيا… وهكذا.
ولعل أهم ما يميز الموجة الحالية من تطور انخراط الأقاليم في الشئون الخارجية هو أن الدبلوماسية الموازية اصبحت منتشرة انتشارًا عامًا في جميع أنحاء العالم.
فباتت الأقاليم والوحدات دون المستوى الوطني منخرطة بشكل أو بآخر في شئون السياسة الدولية، سواءً كان ذلك في أكثر دول العالم ديمقراطية مثل دول غرب أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، أو حتى في أكثر دول العالم مركزية، مثل دول شرق آسيا كالصين واليابان، أو الدول العربية، أو دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وبذلك اصبحت ظاهرة الدبلوماسية الموازية للأقاليم إحدى أهم حقائق السياسة الدولية، ولم يعد ممكنًا تجاهل هذه الحقيقة أو الحد من تطورها وتناميها، ذلك أن الأقاليم، شأنها في ذلك شأن الحكومات المركزية،
اصبحت لديها أهدافها ومصالحها الحيوية التي تسعى إلى تحقيقها من خلال انخراطها في الشئون الدولية، سواءً كانت هذه الأهداف سياسية أو اقتصادية أو ثقافية.
بل إن هناك حاليًا اتجاهًا متزايدًا للتطبيع مع هذه الظاهرة، بمعنى قبولها والتعامل معها على أنها ظاهرة مشروعة وطبيعية في العلاقات الدولية،
فأصبحت المنظمات الدولية تخاطب الأقاليم مباشرةً، واحيانًا تخاطب الأقاليم متحاوزة الحكومات المركزية، مثل مُخاطبة الاتحاد الأوروبي لمقاطعة «فلاندرز» البلجيكية