كتب / مصطفى أبوشامية
لا يوجد بلد لم يترك فيه الشيخ محمد الغمرى أحد العلماء الزاهدين أثرا من أعماله أو بركاته وكانت جماعته فى المحلة الكبرى وغيرها يضرب بهم المثل فى الأدب والاجتهاد ، وذكره معظم المؤرخين مع ابنائه أحمد الغمرى (الشهير باأبوالعباس ) وأبو الحسن بن الغمرى ، حتى قيل أنهم قاموا ببناء وتجديد خمسين مسجدا وزاوية بكثير من الأماكن كانت قد دثرت أو أشرفت على الضياع .. وسعى فى لقائهم السلاطين والملوك والأمراء لطلب العلم والمشورة ..
يعود أصل عائلة الغمرى إلى ” منية غمر ” مدينة ميت غمر حاليا ، والتى نشأ بها الشيخ ” محمد بن عمر بن أحمد الشمس أبوعبد الله الواسطى الأصل ، الغمرى ثم المحلى الشافعى ” والذى ولد سنة 786هجرية وحفظ القرآن عند الفقيه ” أحمد الرميسى ” المذكور بالصلاح الوافر ثم ذهب إلى جامع المحلة أو الجامع المحلى الذى عرف فى المصادر ” بالمدرسة الشمسية” ويرجع أصل المسجد إلى العصر الفاطمى حيث يقع بنهاية حارة الجيارة بجوار مقابر الشهداء واتخذه الشيخ مقرا له ثم قام بتجديده وإعادة بنائه لذلك سمى ( بجامع الغمرى ) وقد دفن به صاحب الكرامات الخارقة الشيخ محمد الغمرى سنة 849 هجرية وتقع حجرة الضريح التى تضم رفاته بجوار حجرة الإمام فى الركن الجنوبى الغربى وهى حجرة عادية مربعة بدون قبة يتوسطها تابوت من البناء فوق رفات الشيخ ولم يبقى من المسجد الأصيل غير عمود جرانيتى قديم وردى اللون وله تاج جرانيت يحمل أحد أشكال الآلهة الفرعونية ويقع بالركن الجنوبى الشرقى للمسجد تجاه جدار القبلة ، بالإضافة إلى اللوحات الأثرية الثلاث التى تعود إلى العصر الفاطمى وتم تسجيلها ضمن الآثار الإسلامية بتاريخ 21 نوفمبر سنة 1951م وأهمهم اللوحة الثالثة المؤرخة بعام 508هجرية 1114 ميلادية وهى لوحة من الرخام مستطيلة أبعادها 50سم × 130سم وبها ثمانية أسطر من الخط الكوفى الغائر باسم الوزير الفاطمى “الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالى” والذى وزر لثلاثة من الخلفاء الفاطميين وهم (المستنصر ، المستعلى ، الآمر ) ونصها كالآتى :
• بسم الله الرحمن الرحيم إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر
• وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشى إلا الله فعسى أولئك أن
• يكونوا من المهتدين مما أمر بعمله الأمير الآجل الأفضل أمير الجيوش
• سيف الإسلام ناصر الإمام كافل قضاة المسلمين وهادى دعاة المؤمنين
• عضد الله به الدين وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين وأدام قدرته وأعلى
• كلمته وأنفذ فى البصيرة أوامره وأحكامه على يد عبده ومملوكه القاضى
• أبو الفتح المسلم بن على بن الحسن الرصعنى متولى الحكم الشريف فى الغربية
• فى المحرم سنة ثمان وخمسمائة
وقد تبين أثناء فك هذه اللوحة من جدار القبلة أنها مستعملة من قبل إذ تحتوى فى الوجه الآخر على سطرين بالحفر البارز بخط كوفى كبير الحجم ممكن تأريخه بالقرن الثالث الهجرى تمثل جزء من آية الكرسى ويدل ذلك على الندرة والقيمة العالية لمادة الرخام ، أما المنبر الخشبى الذى يجاور المحراب فكان من المنابر الدائرية المميزة التى كثر استخدامها فى عهد محمد على وكان يشبه نفس المنبر الموجود بمسجده فى القلعة ، وتزين أجنابه تقسيمات هندسية محبوسة بسقاسات بارزة ويعلو بابه حشوة مستطيلة ذات كتابات تنص على الآية الكريمة ” إن الله وملائكته يصلون على النبى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما” وأسفل جلسة الخطيب من ناحية المحراب كتابة نصها من سطرين : أنشأ هذا المنبر وجدده ناظره الحالى عبد الحافظ الغمرى فى سنة 1330 هجرية 1912 ميلادية ، وفوق هذه الحشوة حفرت عبارة ” تشغيل مصطفى محمد عبد الآخر” وقد ذكر بعض كبار السن أن هذا المنبر كان بمسجد الأمير “عنقا الجوربجى” الذى يقع بميدان البهلون بالمحلة عند تقاطع شارع الخديوى توفيق وبعد اندثاره تم نقله إلى جامع الغمرى ولكن قامت هيئة الأوقاف بنقله إلى مكان غير معلوم أثناء عملية ترميم المسجد للمرة الرابعة فى فترة التسعينيات كما اختفى أيضا عمود الركن الجرانيت !!
وقد ابتنى ” الشيخ محمد الغمرى ” مسجدا آخر بالقاهرة بخط سوق أمير الجيوش بحى باب الشعرية كانت الخطة مفتقرة إليه وهو من الجوامع المشهورة كما يقول : ” على باشا مبارك ” فى الجزء الخامس من كتابه الشهير الخطط التوفيقية وجعل به منبرا وخطبة وقد أتم بنائه ابنه الشيخ “أحمد أبو العباس الغمرى ” سنة 899 هجرية والذى أنشأ بطرف المحلة أيضا جامعا بمنطقة كانت موطنا للفساد وعرف بجامع “التوبة “وذلك فى الفترة مابين عامي 899 : 905 هجرية وتعد مئذنته واحدة من المآذن الفريدة على مستوى العالم وتحفة معمارية نادرة الجمال حيث إنها منحوتة من الأحجار وبها سلم داخلى على شكل مروحى منحوت داخل جدران المئذنة ، أما الجزء العلوى (الخوذة) فتم تجديده فى العصر العثمانى ، ومنارته هى الوحيدة الباقية من منارات العصر المملوكى المشيدة بالحجر فى الوجه البحرى..
وتناقلت الروايات عن وجود سرداب قديم يقع أسفل المنارة عرضه 4 أمتار وطوله ثمانية كيلومترات ويصل تحت الأرض إلي مدينة سمنود فكان المماليك يشنون الهجمات علي المحلة من ذلك النفق ويسلبون مالها وأسواقها ويصبح الناس فيجدون أموالهم وبضائعهم قد سلبت دون أن يعرفوا شيئا عن اللصوص ولا كيف تمت عملية السلب .. ولكن ثبت عدم دقة هذه الرواية حيث تبين عند معاينة المسجد سنة 1899م أنها فتحة لقناة مقبية كانت تمتد من جامع التوبة حتى الخليج المصرى أو ترعة المعاش التى كانت تمر فى شارع سعد زغلول الحالى ( السد سابقا ) لتمد صهريج المسجد بالمياه بما يفى حاجة المسلمين ..
وفى سنة 905 هجرية توفى أبو العباس الذى عرف عنه وعن أبيه حب بناء المساجد حيث دفن بمسجد والده الصوفى الكبير بالقاهرة الشيخ محمد الغمرى الذى كان أحد أكابر الأولياء الصالحين وله الكثير من المؤلفات النافعة والكرامات الساطعة منها : أنه نام عن وقود القناديل فأشار إليها فاتقدت جميعا . ومنها : أنه دخل عليه الشيخ شهاب الدين بن النخال فوجد له سبعة أعين فغشى عليه ، فلما أفاق قال له الشيخ الغمرى إذا كمل الرجل صار له سبعة أعين على عدد أقاليم الدنيا . وكان رضى الله عنه يحب المشى إلى الشفاعات مع قدرته على قضاء الحاجة بقلبه ، أما ابنه الشيخ أبو العباس الغمرى الواسطى فكان جبلا راسيا وكنزا مطلسما ذا هيبة على الملوك فمن دونهم وكان له أيضا كرامات كثيرة يحفظها جماعته منها أنه وقع من جماعته صرة فيها فضة أيام عباب البحر ، والمركب منحدرة نواحى سمنود فلم يشعروا بها إلا بعد أن انحدرت كذا كذا بلدا فأوقف الشيخ رضى الله عنه المركب وقال روحوا إلى المكان الفلانى وارموا الشبكة تجدوها ففعلوا فوجدوها ، وكان السلطان قايتباى يتمنى لقاءه فلم يأذن له، وذكر ذلك عبد الوهاب الشعرانى فى كتابه الشهير الطبقات الكبرى” لواقح الأنوار فى طبقات الأخيار ” صفحة 410 وصفحة 456 ، كما أذن فى الإرشاد للشيخ محمد الغمرى فأقام بالأزهر مدة للاشتغال فى التنبيه وقد أخذ العلم على يد سيدى أحمد الزاهد وسراج الدين البلقينى وإمام الكاملية والماردانى وأبو السعادات والزين زكريا والعز السنباطى ومن تصانيفه: النصرة فى أحكام الفطرة ، محاسن الخصال فى بيان وجوه الحلال ، والحكم المضبوط فى تحريم عمل قوم لوط ، والانتصار لطريق الأخيار ، والرياض المزهرة فى أسباب المغفرة ، وقواعد الصوفية ، والحكم المشروط فى بيان الشروط والوصية الجامعة ، ومنح المنة فى التلبس بالسنة (أربع مجلدات ) وآخر فى المناسك ، وقد تأسف الناس على فقده والثناء عليه كثيرا بعد وفاته فى ليلة الثلاثاء آخر يوم من شعبان سنة 849 هجرية ودفن فى جامعه بالمحلة ، أما العمارة الحالية للمسجد فترجع إلى عام 1357 هجرية 1938ميلادية حيث كانت توجد لوحة رخامية مثبتة على جدار المدخل الكبير الواقع شمالى جدار القبلة ونصها فى أربع سطور بالبارز:
– جدد بناء هذا المسجد وأنشأ
– ملحقاته أحمد أفندى المحلاوى
– الوكيل عن والدته ناظرة وقفى
– الغمرى والتوبة سنة 1357هجرية 1938م
وكان المكان به سبيلا للشرب وتشمل لوحته على أربعة أسطر بالخط البارز نصها
– بسم الله الرحمن الرحيم
– وسقاهم ربهم شرابا طهورا
– أنشأ هذا السبيل لله الكريم الست وداد عبده الفار
– حرم أحمد أفندى المحلاوى سنة 1361 هجرية موافق سنة 1942 م
وقد عرف عن المحلاوى أنه أحد أقطاب حزب الوفد وتعرض للسجن مع الدكتور حيدر الشيشينى بسبب مواقفهما السياسية وكان يعمل سمسارا للعقارات والأراضى كما كلفه طلعت حرب باشا بتولى أعمال شركات بنك مصر وهو والد الصحفية الشهيرة نوال المحلاوى مدير مكتب محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام ، وحسن المحلاوى رجل الأعمال بألمانيا والذى سار على نهج أبيه أيضا وأسس أكبر مسجد ومجمع إسلامى بمدينة دسلدورف الألمانية وهو يبلغ من العمر حاليا 86 سنة حيث أنه من مواليد 1933 أما والدتهم السيدة وداد الفار فكانت عضوا بجمعية مبرة محمد على بالمحلة وساهمت بدور كبير فى العديد من المشاريع الخيرية والعمل العام ووالدها هو المرحوم عبده الفار الذى كان من كبار النساجين اليدوى بمنطقة صندفا فى أوائل القرن الماضى .
كتب مصطفي ابو شاميه .