“الغزل بين التراث والاستحداث”
تعقيب استاذ عباس محمود حامد على المقال الإسبوعي للناقد الأكاديمي الجليل أ.د.أحمد فرحات بعنوان “من التراث” .
الغزل بين التراث والاستحداث
اولا بقلم أ.د.أحمد فرحات
“الأدب القديم قراءته عسيرة، وفهمه أعسر، وتذوقه أشد عسرا. وأين هذا القارئ الذي يطمئن إلى قراءة الأسانيد المطولة، والأخبار التي يلتوي بها الاستطراد، وتجور بها لغتها القديمة الغريبة عن سبيل الفهم السهل والذوق الهني الذي لا يكلف مشقة ولا عناء!”.
المتعارف عليه في تراث العربية الأدبي أن يبدأ الشاعر قصيدته بالغزل، وليس مطلوبا منه أن يفصح عن اسم محبوبته، ولا يكشف عن هويتها، تحقيقا لمبدأ عرفي أصيل عند العرب وهو الحفاظ على العرض من التشهير بذكر الاسم والقبيلة، احتراما لعادات متوارثة.
وتذكر الرويات المنقولة عن العرب أن الرسول-صلى الله عليه وسلم- استمع إلى قصيدة كعب بن زهير وأثنى عليها، وصفح عنه، بعد أن هدر دمه. ومن المعروف أن قصيدة كعب بدأت بقوله: بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ. وتباينت آراء المؤرخين حول ما إذا كانت «سعاد» الوارد ذِكرها في القصيدة شخصية حقيقية أم لا، فبعضهم اعتبرها رمزًا معنويًّا للمرأة، وآخرون قالوا:هي امرأته وبنت عمه، ذكرها في القصيدة لطول غيبته منها لهروبه من النبي. وفي الحالين لم ينشغل أحد بماهية سعاد، ولم يرد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- امتعاض ما، أو تبرم من ذكر اسم سعاد في شعر كعب.
وفي حال ذكر اسم امرأة معروفة النسب والأصل فإن الأمر مختلف ولاسيما إذا كانت محبوبة، وقد شبب بها الشعراء في قصائدهم. هنا يتداخل التاريخي بالديني والأنثروبولوجي بالأسطوري للكشف عن مركزية العلاقة بين المرأة والرجل في العصور القديمة. ولنأخذ ليلى بنت الخطيم تمثيلا للفكرة..
وهي أخت قيس بن الخطيم. وعن ابن عباس قال : أقبلت ليلى بنت الخطيم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مولي ظهره الشمس فضربت على منكبه فقال : من هذا ؟ أُكْلة الأسد ؟ – وكان كثيراً ما يقولها – . فقالت : أنا ابنة مٌطْعِم الطير ومُباري الريح أنا ليلى بنت الخطيم ، جئتك لأعرض عليك نفسي تزوجني . قال : قد فعلتُ ، فرجعت إلى قومها فقالت : قد تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم . فقالوا : بئس ما صنعت ، أنت امرأة غَيْرى، والنبي صاحب نساء تغارين عليه فيدعو الله عليك فاستقيليه نفسك. فرجعت فقالت: يا رسول الله، أقلني . قال: قد أقلتكِ. قال: فتزوجها مسعود بن أوس بن سواد بن ظفر فولدت له، فبينا هي في حائط من حيطان المدينة تغتسل إذ وثب عليها ذئب لقول النبي صلى الله عليه وسلم فأكل بعضها فأُدركتْ فماتت. ومما روي أيضا أن ليلى بنت الخطيم وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ووهبن نساء أنفسهن فلم يسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل منهن أحداً.
أما الصحابي الجليل حسان بن ثابت فقد تغزل في ليلى بنت الخطيم، وانتقم منه قيس بن الخطيم وتغزل في عَمْرَةَ زوج حسان. ولا شك أن مثل هذه القصائد تمثل خط القلق النفسي، واضطراب النفوس، وتغير عدة السلاح، فبدلا من الحروب الفعلية حلت الحروب الشخصية، والعائلية، وقد سجل ديوان الشعر العربي هذه القصائد القلقة كأنها قيلت وروح الشاعر على جناح القلق تتقلب. وقد نقل صاحب نشوة الطرب فقرة أراها من أهم فقرات الكتاب عن قيس بن الخطيم. قال: وكان أجمل أهل زمانه، لا تراه امرأة إلا فتنت به، وكان يتغزل في عمرة زوج حسان بن ثابت، وكان حسان يتغزل في ليلى بنت الخطيم. ناهيك عن اشتعال نيران الحروب بين قبيلتيهما الأوس والخزرج قبيل الإسلام، فالحرب قد نالت من نسائهم بشكل صارخ.
يقول قيس بن الخطيم في عمرة :
أجَدَّ بعَمرة َ غُنيانُها
فَتَهْجُرَ، أم شَأنُنا شَانُها
وإن تمسِ شطتْ بها دارها
وَباحَ لَكَ اليومَ هِجْرانُها
فما روضة من رياض القطا
كأنَّ المصابِيحَ حَوْذَانُها
بأحْسَنَ منها، ولا مُزْنَة ٌ
دَلُوحٌ تكَشَّفُ أدْجَانُها
وعَمْرَة منْ سَرَوَاتِ النِّسَا
ء تَنْفَحُ بالمسْكِ أرْدَانُها
ونحن الفوارس يوم البي
ع، قد علموا كيف فرسانها
وكان حسان ذَكَرَ ليلى بنت الخطيم في شعره فكافأه قيس بذلك ، وكان هذا في حربهم التي يقال لها يوم الربيع.
تذكرتَ لَيلى وَأنى بها
وإذا قُطِعَتْ مِنكَ أَقرانُها
وَحَجَّلَ في الدارِ غِرب
وَخَفَّ مِنَ الدارِ سُكّانُها
وَغَيَّرَها مُعصِراتُ الرِياحِ
وَسَحُّ الجَنوبِ وَتَهتانُها
ومسألة ذكر أسماء النساء المعروفات أصلا
ونسبا في قصائد الشعراء امر يستوجب اللوم و التقريع من المجتمع ومن الشعراء أنفسهم لانه أمر يعرض عقائلهم للتشهير.
الغزل بين التراث والاستحداث
===================
بقلم الشاعر.عباس محمود عامر
“مصر”
خلق الله المرأة بكتلة تتوهج بالمشاعر لم ولن تنطفئ .. ومنحها قدرا من الحسن والجمال لتأخذ صفة الأنوثة .. من هنا كانت لها مؤثرات كامنة في دواخل الشاعر .. أصبح يعبر عما يجول في دواخله من وصف المرأة وإبراز محاسنها ومفاتنها وخلجات أنوثتها .. لما لها من تأثير في الجاذبية المشتركة والتغني بها .. وهذه الجاذببة تتفاعل داخل روحين روح الشاعر وروح المرأة .. مما جعل الشاعر يقوم بتصوير هذا التفاعل الروحي في صيغة فنية شعرية .. سميت هذه الصيغة بالغزل ..
أول ما ظهر الغزل .. ظهر في مصر القديمة في عصر القدماء المصريين .. كشفت عنه بردية شستر بيتي في قصيدة “العاشقة العذراء” وهي عن أجمل قصة حب خلدها التاريخ بين نفرتاري ورمسيس الثاني والذي تزوجها بعد ذلك .. إذ تقول فيها نفرتاري :
“لقد أثارني حبيب قلبي بصوته
وتركني فريسة لقلقي وتلهفي
إنه يسكن قريبًا من بيت والدتي
ومع ذلك فلا أعرف كيف نحوه
ربما تستطيع أمي أن تتصرف حيال ذلك
يجب أن أتحدث معها
وأبوح لها
إنه لا يعلم برغبتي في أن آخذه بين أحضاني
ولا يعرف بما دفعني للإفصاح بسري لأمي
أن قلبي يسرع في دقاته عندما أفكر في حبي
إنه ينتفض في مكانه
لقد أصبحت لا أعرف كيف أرتدي ملابسي
ولا أضع المساحيق حول عيني
ولا أتعطر أبدا بالروائح الذكية”
بعد ذلك تجدد الغزل وظهر في عدة مسميات مثل الغزل العفيف والغزل العذري والغزل البدوي والغزل الحسي والغزل الصريح والغزل الفاحش .. تحددت هذه المسميات طبقا لخصائص كل مسمى ..
ومع طبيعة المجتمع تغيرت المرأة تماما في العصور الحديثة .. وعبر الشعر الحديث عن تحولات المرأة ..ليكون الجسد هو الإطار الشكلي في الغزل .. والمادة أصبحت من أهم أهداف المرأة .. تحولت من العاطفة الروحية إلى العاطفة السطحية ظهرت فيها ملامح المشاعر الدفينة في صورة باهتة .. بفعل التأثير الرأسمالي للمجتمعات الذي غير كل النواحي الإجتماعية والإقتصادية والثقافية .
نستعرض التحول الملحوظ للغزل .. ففي الشعر الجاهلي حيث يبهرنا الشاعر “علقمة الفحل” في ابياته التالية يتغنى فيها بجمال المرأة :
“وفي الحيِّ بَيضاءُ العَوارِضِ ثَوبُها
إِذا ما اِسبَكَرَّت للشَبابِ قَشيبُ
وَعيسٍ بَرَيناها كأَنَّ عُيونَها
قَواريرُ في أَذهانِهِنَّ نُضوبُ
وَلست لِإنسِيٍّ وَلَكِن لِمَلأَكٍ
تَنَزَّلَ مِن جَوِّ السَماءِ يَصوبُ” .
كما أبهجنا امير الشعراء “أحمد شوقي” في غزل يتجلى بين الأبيات التالية :
“بَيني وَبَينَكَ في الهَوى
سَبَبٌ سَيَجمَعُنا مَتينُهُ
رَشَأٌ يُعابُ الساحِرونَ
وَسِحرُهُم إِلّا جُفونُهُ
الروحُ مِلكُ يَمينِهِ
يَفديهِ ما مَلَكَت يَمينُهُ
ما البانُ إِلّا قَدُّهُ
لَو تَيَّمَت قَلباً غُصونُهُ
وَيَزينُ كُلَّ يَتيمَةٍ
فَمُهُ وَتَحسَبُها تَزينُهُ” .
والغزل يأخذ شكلا آخر عند الشاعر العراقي بدر شاكر السياب نراه في هذه الأبيات يقول :
“عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ،
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر.
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
وترقص الأضواء… كالأقمار في نهَرْ” .
أما الشاعر “نزار قباني” من شعراء العصر الحديث الذي أخذ طابعا خاصا .. فكتب غزلا في قصيدته :
“يا سيِّدتي:
أنتِ الآنَ.. أهمُّ امرأةٍ
بعد ولادة هذا العامْ..
أنتِ امرأةٌ لا أحسبها بالساعاتِ وبالأيَّامْ.
أنتِ امرأةٌ..
صُنعَت من فاكهة الشِّعرِ..
ومن ذهب الأحلامْ..
أنتِ امرأةٌ.. كانت تسكن جسدي
قبل ملايين الأعوامْ ” .
نلاحظ أن الغزل مر بعدة مراحل .. كل مرحلة تأثرت بطبيعة كل عصر على حده .. كما تغيرت المفردات اللغوية في الغزل من الشعر الجاهلي حتى العصر الحديث.
دكتورنا الجليل يتحفنا قلمك دائما بكل روائع الأدب .. ومن التراث قدمت لنا رافد من الغزل .. ينقلنا إلى عوالم تبهرنا بالجمال والابداع