كتب الدكتور كمال الحجام
أفق التربية الإستراتيجي
.
موازنات:
بين المركزية والمحلية:
أفق التربية الاستراتيجي
تكتسي قضية تموضع المسألة التربوية بين السلطة المركزية والسلطة المحلية، بين المركز والهامش، بين المحورية والموجات المحيطة، أهمية قصوى لا على مستوى التفكير فيها والتأسيس لها فحسب، وإنما خاصة على مستوى الاشتغال الحقيقي وما يتطلبه من ضمانات منهجية وإجرائية في غاية التعقيد، سيما إذا ما اقتنعنا بأن الشأن التربوي في تداخل وتقاطع كبيرين مع ما هو اجتماعي وثقافي واقتصادي…
واعتبارا لدقة التعاطي والتفكير المنهجي مع هذه المسألة وما يمكن أن تستدعي لدى القارئ من تاويلات غير مقصودة، سأبدأ هذه التدوينة ببعض الملاحظات الجوهرية التي من شأنها أن تقرٌب المقصود من هذا الطرح التربوي الذي يجرؤ إلى عرض بدائل ممكنة قد تغير من تصورنا لاشتغال النظم التربوية …
– تتعلق الملاحظة الاولى بالعنوان (بين المركزية والمحلية، الافق التربوي الاستراتيجي)، خلافا للتنظيمات المركزية او المحلية للسلطة التربوية، يمكن التفكير في طرح او بديل آخر يعيد التنظيم الداخلي لتوزيع السلطة التربوية بما يحافظ على الكيان الوطني ويعطي وجاهة المحلي في بناء القرار التربوي…بهذا نتحدث عن السلطة المحلية كافق استراتيجي، كرؤية بديلة مستقبلية تتحقق على مرٌ الأيام، هي رهان يكتسب مستقبلا بتوفر الظروف المناسبة لذلك…
– تتعلق الملاحظة الثانية باختيار الجهاز المفاهيمي الذي تم توظيفه للمعالجة الفكرية للمسالة، والتأكيد على الحذر الكبير الذي لازمناه فكريا في طرح هذا الرهان التربوي البديل. فالمفاهيم الموظفة تعاملنا معها بوعي يجعل منها ادوات فكرية للحوار البناء بما تطرحه من إشكاليات جوهرية وامكانيات حلول مستقبلية، وتعالينا بها على ما يمكن أن يبسٌطها لاستعمال العامٌة. وذلك بعيدا عن التفكير السطحي للمفاهيم الذي قد يتفاعل معها البعض في استعمالاتها اليومية او السياسوية غير المقصودة بالمرة في هذا المقال. نحن في مقام فكري نطرح القضايا والحلول لإثارة الرأي وتعميق التفكير.
– تتعلق الملاحظة الثالثة بالسياق العام الذي يندرج ضمنه هذا الطرح الفكري، والذي يتناول النظم التربوية في مطلق أجهزتها لاحتضان هذا البديل التنظيمي التربوي الذي يتعامل مع المحلي في التمشيات وكيفية تنفيذ الاجراءات الموزعة بحكمة وتنظيم نسقي بين المحلي والمركزي، وعيا بضرورة المحافظة على وحدة الأهداف الضامنة للمجتمع الحاضن للجميع من جهة، وبمتابعة المشاغل في خليتها المحلية لحلها من جهة اخرى…
– تتعلق الملاحظة الرابعة بطبيعة السلطة المحلية كرهان مستقبلي لا يعني انقسام الوطن إلى محليات مجزٌأة، الى محلٌيات من شأنها ان تقطع أواصر المجتمع الام وكيانه الباني لوحدته، اننا نتحدث عن المحلي في رؤية متبصٌرة اكثر بالواقع كما يجري فعلا. فالمشاغل المحلية التي تكون محل تمحيص في هذا الطرح، قد لا يكون التعامل معها بنفس اليسر على المستوى الوطني. لذلك تحدثنا عن الواقعية في التعامل مع هذه المشاغل، اثرنا مسالة القرب منها، وتوخينا اختيار مسلك العقلانية في مواجهتها.
تعالج النظم التعليمية على اختلاف مرجعياتها القضايا التربوية، وتبحث تبعا لذلك بطرق مختلفة عن الحلول الكفيلة بضمان تعليم جيد ومنصف لرواد المؤسسات التربوية، وتمكينهم من مواصلة دراستهم في ظروف عادية. كما تسعى جل النظم التربوية من خلال مشاريعها وبرامجها إلى مساعدتهم على الاندماج الاجتماعي بشكل افضل. وبعيدا عن المعالجات التفسيرية المبنية على الحتميات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في طرح هذه المسائل، يؤكد التوجه الانقلو سكسوني على سبيل الذكر، على الفهم المعمق والتشخيص الاستراتيجي للاشتعال المحلي للنظام التربوي على مستوى مكوناته الميدانية.
ان تجاوز التفسير الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الذي تبلور خاصة مع علماء الاجتماع الفرنسيين في أواسط القرن العشرين في تناول القضايا التربوية، إلى الطرح المنهجي القاضي بالكشف عن الأسباب الداخلية المرتبطة بالسياق الذي تندرج فيه العملية التربوية في بعدها المحلي، مثٌل قفزة نوعية في تفسير الظواهر التربوية واضفى مزيدا من الفاعلية في التشخيص والوجاهة في بلورة الحلول النوعية…
ظل لاعتقاد السائد، ولمدة طويلة، ان المعالجة المركزية للمسائل التربوية تتميز بتنظيم شامل للشأن التربوي في كليته وفهم أسباب القضايا في مجملها بقطع النظر عن الاختلافات الجزئية الواردة في مكوناتها. وقد تركز هذا التوجه على العديد من المبرارات، لعل أهمها أن الدول لا تحتمل أكثر من مركز زيادة على انها غير قادرة على تحمل أعباء التجزئة المحلية التي لا تضيف شيئا ذا قيمة للكل. وأن التحكم في أصل الأسباب والبحث عن حلول مركزية تطبق بنفس الطريقة على كل الجهات والمحليات يؤسس لنوع من العدالة التربوية التي على ضوئها تعالج مشاغل التربية في كل الجهات وبنفس التمشيات للحصول على نفس النتائج.
ولم يكن للجهوي كما للمحلي قيمة اعتبارية في كيفية تناوله للقطاع التربوي عامة، وقد ادى هذا إلى اختزال كل المؤسسات التربوية المحلية والجهوية في ما يمكن أن يُعمٌم مركزيا. لقد اصبحت القضايا التربوية المحلية غير معنية بالدرس فتمٌ اقصاؤها واستفحال مظاهر تهميشها وغياب شفافية الحوكمة المفتوحة على المحلي وخصوصياته المتنوعة. وفي ظل هيمنة ديمقراطية مركزية، اُتلفت السلطة التربوية المحلية وغابت معالجتها الخصوصية وقضاياها النوعية وانعدمت بذلك الإمكانيات المالية الضرورية. والجدير بالذكر أن كل هذه الانعكاسات التنظيمية على مختلف المستويات كانت تجري في إطار تشريع واضح للمعالجة التربوية المركزية.
لقد اكدت جل الدراسات المقارنة ان هذا التوجه أدٌى إلى انغلاق النظم التربوية في مركزيتها المفرطة، ونظرا لعدم نجاح النظم التربوية في تقديم الحلول الكفيلة بتجاوز المسائل التربوية العالقة، وتفاقم الظواهر السلبية التربوية، كان من اللزوم بمكان أن تتوافر الجهود الدولية من أجل التنظيم اللامركزي والداعية إلى ايلاء المحلي ما يستحقه من معنى اعتبارا لخصوصياته إلى جانب أهمية المركزي في ضبط السياسات العامة. فكان لزاما على العديد من النظم التربوية إعادة النظر في الاطار القانوني وإيجاد التشريعات القائمة على تشريك المواطن والمجتمع المدني المحلي في صناعة القرار الكفيل بمواجهة التحديات المطروحة على الصعيد التربوي المحلي.
وبذلك تأكد تنزيل مبادئ التسيير المحلي عامة في العديد من الدول في العالم بما يجعل الشان التربوي قد يستفيد لاحقا من هذا التصور العقلاني المحلي خاصة إذا ما توفرت له ضمانات النجاح في كيفية إيجاد الروابط والجسور الممكنة بين المركزي والمحلي.
في ظل هذا الطرح تقوم السلطة التربوية المحلية على الحوكمة التشاركية في المستوى المحلي، بما يساعد على تشييد صرح الثقة مع المواطنين المباشرين للمرفق العام التربوي، ودعم فرص الانخراط الفعلي في بناء مشاريع تطوير تشاركية للمؤسسة التربوية، اظافتها النوعية انها نابعة من الواقع، قيمتها الثابتة أنها منبثقة من واقعية المنخرطين فيها.
ان معنى السلطة التربوية المحلية، كرهان استراتيجي لمعالجة نوعية القضايا التربوية يتجلى في اعتمادها المقاربة التشاركية و مبادىء الحوكمة العقلانية كوسيلة لإدارة المؤسسة التربوية. وهو ما من شأنه أن يعزز قيم المواطنة الفعالة و الإحساس بالانتماء، إضافة إلى توفير أكثر ضمانات لنجاح المشاريع و تحقيق المشاركة الفعلية التي يمكن اعتبارها عمود الممارسة الديمقراطية والتدريب المنهجي على صنع القرار المحلي والعمل على تطوير التدبير المحلي.
ولنجاح المقاربة المحلية في تدبير الشأن التربوي، وجب التوقف عند بعض الضمانات المنهجية التي يُتفرض التدرٌب عليها محليا من قبل المجموعة المرجعية المهنية في شراكتها مع كافة المنشغلين بالشأن التربوي:
* الطرح الاستراتيجي السليم للمشاغل التربوية المحلية: تستدعي السلطة التربوية المحلية التدرٌب على الطرح الاستراتيجي السليم للمشاغل الحقيقية للشأن التربوي المحلي في إطار ما تطرح مركزيا من سياسة عامة تمثل الخلفية والاطار العام الذي يتم التحرك فيه، ويتطلب ذلك القدرة على التشخيص الدقيق للواقع وتحديد الخصوصيات المحلية للمشاغل الحقيقية المسبٌبة في عطالة الشأن التربوي. ونعني بالطرح الاستراتيجي التحديد السليم للمشاكل ومدى تأثيرها مستقبلا على تطوير المرفق العام، ويتخذ هذا التحديد معناه عندما يتم التاكد من ان الضغط على الأسباب يسهم في تحسين نوعية الخدمة التربوية المحلية.
* التعاطي الواقعي مع المشاغل المطروحة: يفترض حل المشاكل التربوية كما يتم تحديدها محليا بواقعية، حيث تضبط التمشيات الممكنة، وتوظف الوسائل المتاحة فعلا من أجل نتائج واقعية يمكن ملاحظتها وقيسها.
* الممارسة الفعلية لسياسة القرب في ضوء سياسة مركزية عامة: تتميز المعالجة المحلية لقضايا التربية بانها معالجة مبنية على تواجد فعلي وشراكة حقيقية في المشغل التربوي، حيث يساهم أهل الاختصاص الذين يشاركون فعلا في الأعمال المنجزة في كل المراحل التي يستدعيها الاستدلال المنهجي الملائم للحل.
* التأمٌل في النتائج: تخضع النتائج المتحصل عليها إثر المعالجة المنهجية للمشاغل التربوية المحلية إلى التفكير المتعدٌد في منطلقاتها، كما في تمشياتها وفي نتائجها، ويتم تحديد نجاعة التدخل في ضوء المقارنة بين المجهود المبذول ونوعية النتائج المتحصل عليها.
اعتمادا على ما تتميز به المقاربة المحلية للشأن التربوي من تأطير مركزي يضبط الخيارات العامة والسياسة التربوية المركزية، ومن واقعية تستمد معناها من ارتباطها الحقيقي بمشاغل محددة منهجيا، ومن عقلانية محلية قوامها التفكير والتبصٌر المنهجي في تمشيات الحلول وتجاوزها بالوسائل المتاحة، ومن شعور بالمسؤولية في ما ينجز في الشأن التربوي بما يساعد على المساءلة والبحث المنتظم عن التطوير، يمكن اعتبار السلطة التربوية المحلية كتفعيل مخصوص لخيارات وطنية جامعة ومؤطرة للجميع أفقا فعليا لإيجاد مسالك متنوعة النجاحات محلية تعطي معنى لنجاح النظام التربوي المركزي ككل، كما يمكن بذلك ايضا تنزيل هذه النجاحات في مستوى المسيرة الشاملة للتنمية المحلية والوطنية…
د/كمال الحجام