بلاد الباب العالي تركيا .. جمال يكمن بداخله اسرار التاريخ
تقرير: أسامة حراكي
قال نابليون بونابرت: “لو كان العالم دولة واحدة، لكانت عاصمتها إسطنبول” نابليون لم يكن يبالغ لأن من يزور هذه المدينة التي تعد بمثابة صلة الوصل بين أسيا وأوروبا بكل ما يتضمن ذلك من معاني، يدرك تماماً صحة قول نابليون، ويكتشف أنها ليست مجرد صلة وصل بين قارتين، إنما هي عبارة عن مزيج حضاري وتاريخي وثقافي غريب، حيث تعبق بسحر الشرق والغرب في آن واحد، وتقع بين بحرين، البحر الأسود وبحر مرمرة حيث تمتزج فيها مياههما، مايجعلها أيضاً صلة الوصل بين الشمال والجنوب، وليس فقط بين الشرق والغرب، لتتميز بنكهة قد لا يكون لها مثيل في أي مكان آخر من العالم، تلك المدينة التي تتداخل تلالها الخضراء مع زرقة مياه البوسفور، التي تقع على مضيقه، وتمتد على طول الجانبين الأوروبي والآسيوي منه، وبيوتها التي تتألق بألوان القرميد الأحمر وزهور التوليب الصفراء، هي أكبر المدن التركية وخامس أكبر مدينة في العالم، وتعد مركز تركيا الثقافي والإقتصادي والمالي.
بنيت عام 685 قبل الميلاد وكانت قرية للصيادين تعرف بإسم بيزنطة، وفي عام 335 ميلادي أصبح أسمها القسطنطينية حيث جعلها الأمبراطور قسطنطين عاصمة للإمبراطورية الرومانية، وفي عام 395 أصبحت عاصمة الإمبراطورية البيزنطية حتى فتحها السلطان العثماني محمد الفاتح عام 1453 وأطلق عليها الإستانة أو إسلام بول “مدينة الإسلام” وجعلها عاصمة الدولة العثمانية، وبعد انتهاء الحكم العثماني وإعلان تركيا جمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك حول إسمها إلى اسطنبول.
في اسطنبول مطاران، مطار أتاتورك في الجانب الأوروبي، ومطار صبيحة في الجانب الآسيوي، وصبيحة كوكجن (22 مارس1913 – 22 مارس 2001) كانت أول طيار مقاتل من النساء في العالم، وأول طيار محارب تركي من النساء، عندما كان عمرها 23 عاماً، وقد كانت واحدة من 8 أطفال تبناهم مصطفى كمال أتاتورك سنة 1925، ومنحها لقب “كوكجن” درست في مدرسة جانقايا الابتدائية وثانوية بنات اسكدار في اسطنبول، ودخلت مدرسة تُرك قوشوه للطيران المدني التابعة إلى مؤسسة الجو التركي في سنة 1935 وحصلت على الشهادة العالية لقيادة الطائرة عديمة المحرك في أنقرة، وقد أتمت تدريبها بعد أن تم ارسالها في بعثة مع سبعة طلاب آخرين إلى القرم في روسيا، ودخلت في سنة 1936 مدرسة الطيران العسكرية في اسكي شهر، لتتخرج منها طيارة عسكرية.
من يزور تركيا لا يشعر بأنه زائر أو غريب، بل يشعر أنه يعرفها ويعرف أهلها، حيث يجد تناغماً وانسجاماً معهم، فهي تضج بالحياة والحركة والمولات والمحلات التجارية ومراكز التسوق، وثمة أماكن سياحية وأثرية تستحق الزيارة، تعج بالسياح الذين يقفون في طوابير طويلة بهدف الفوز بجولة داخلها والإطلاع على تفاصيلها الهندسية والمعمارية الفريدة، حيث يتجسد التعايش الإسلامي ـ المسيحي في أبهى صوره، ويأتي في مقدمتها:
حدائق يلدز:
تقع في حي بشكتاش بجانب قصر يلدز التاريخي، على ضفة البسفور من الجانب الأوروبي، كانت غابة صغيرة في العهد البيزنطي، وفي عهد العثمانيين أصبحت أرض صيد للسلاطين، حتى بنى السلطان عبد المجيد الثاني قصر يلدز فأصبحت حديقة أمامية للقصر، ويوجد فيها أنواع كثيرة من الأشجار الخضراء والأزهار الملونة.
تل العرائس:
في مدينة اسطنبول سبعة تلال تكسوها الأشجار، وأعلى هذه التلال تلة العرائس وهي أعلى قمة في اسطنبول، فيها الكثير من أشجار الصنوبر الشاهقة وتعد من أجمل الأماكن في اسطنبول، وفيها العديد من المطاعم والمقاهي والجلسات التي تطل على مناظر خلابة للمدينة.
ميدان سباق:
كان في عهد الرومانيين ثم البيزنطيين ميدان لسباق الخيل، وكان ميدان كبير جداً على شكل حرف U واليوم يقع بين أهم المناطق التاريخية مثل قصر الباب العالي، ومسجد السلطان أحمد وآيا صوفيا، وتتوسط الميدان مسلة فرعونية نقلت من مصر في عهد العثمانيين.
قصر توب كابي “الباب العالي“:
قصر محمد الفاتح، الذي تمت منه إدارة أكبر امبراطوريات العالم لعدة قرون، الامبراطورية العثمانية، وبني بأمر من السلطان محمد الفاتح، في قرون لاحقة توّسع القصر بحيث بلغت مساحته 700 ألف متر مربع، وتحيط به أسوار بطول خمسة كيلومترات، اليوم هو عبارة عن متحف مدهش من أهم أركانه جناح (خرقة السعادة) الذي يحتوي على الأمانات المقدسة (على ذمة أصحاب البلد) كسيف النبي صلى الله عليه وسلم وأثر قدمه، وقوسه، وشعرات من لحيته الشريفة، وبعض أغراضه الشخصية، بالأضافة إلى سيوف الخلفاء الراشدين، وعمامة يوسف عليه السلام، وغيرها الكثير من الأمانات المقدسة، ومن الأجنحة المميزة أيضا التي تستحق الزيارة والتجول جناح المجوهرات، ويضم تحفا أثرية لا تقدر بثمن، منها عرش السلطان النادر، وماسة نابليون المشهورة، وسيف السلطان سليمان القانوني، وملابس السلاطين.. قصر توب كابي أجواؤه تاريخية عثمانية لا تمل.
الجامع الأزرق:
مسجد السلطان أحمد أو الجامع الأزرق الذي بناه السلطان أحمد وسمي بالجامع الأزرق لأن حوائطه الداخلية من البورسلين الأزرق، وهو جامع مذهل في عمارته وأنواره في الليل، يعد أحد أهم وأضخم المساجد في تركيا والعالم الإسلامي، بني المسجد بين عامي 1018 ـ 1020 هـ / 1609 ـ 1616 م حسب أحد النوقشات على أحد أبوابه، مهندسه محمد آغا أشهر المعماريين الأتراك بعد سنان باشا وداود أغا، يقع المسجد جنوب متحف آيا صوفيا مقابلاً له، وشرق ميدان السباق البيزنطي القديم، وله سور مرتفع يحيط به من ثلاث جهات، وفي السور خمسة أبواب، ثلاثة منها تؤدي إلى صحن المسجد واثنان إلى قاعة الصلاة، يتكون الصحن من فناء كبير، ويتوسط الصحن ميضأة سداسية محمولة على ستة أعمدة، أكبر الأبواب التي تؤدي إلى الصحن يظهر فيه التأثر بالفن الفارسي، داخل المسجد على شكل مستطيل طولي ضلعيه 64 م و 72 م وتتوسطه قبة كبيره يحفها أربعة أنصاف قبة، كما أن كل ركن من أركان المسجد مغطى بقبب صغيرة، بها عدد كبير من النوافذ المنفذة للضوء، يعلو المسجد ست مآذن لاقت صعوبات في تشييدها، إذ كان المسجد الحرام يحتوي على ست مآذن ولاقى السلطان أحمد نقداً كبيراً على فكرة المآذن الست، لكنه تغلب على هذه المشكلة بتمويل بناء المئذنة السابعة في المسجد الحرام ليكون مسجده المسجد الوحيد في تركيا الذي يحوي ست مآذن، ويقال أن السلطان أحمد كان قبل توجهه للحج قد أمر وزرائه ببناء مأذنة ذهبية للمسجد (وكلمة ذهب تعني “ألتين” باللغة التركية) ومع استحالة تنفيذ هذا المطلب اقتصادياً، تظاهر رئيس الوزراء بأنه قد سمعها “ألتي” وتعني ستة باللغة التركية. وعلى بعد خطواط في الجهة المقابلة للمسجد يوجد متحف آيا صوفيا.
آيا صوفيا:
هو مبنى تاريخي للعبادة، يقع على الضفة الأوروبية في مدينة إسطنبول، أُنشئ في العصر البيزنطي ليكون كاتدرائية للبطريركية المسيحية الأرثوذكسية أطلق عليها كنيسة آيا صوفيا، التي تعني “كنيسة الحكمة الإلهية” ثم تحول إلى كاتدرائية رومانية كاثوليكية، وبعد فتح القسطنطينية تحول إلى مسجد عثماني باسم الجامع الكبير الشريف لآيا صوفي، وبعد انتهاء الحكم العثماني وقيام الجمهورية التركية حوله مصطفى كمال أتاتورك لمتحف علماني إرضاءاً للمسيحيين والمسلمين معاً، ثم أُعلن عن إعادته مسجدا في 24 يوليو عام 2020 بعد قرار حكم المحكمة الإدارية العليا بتركيا بذلك، وهذه المنطقة محاطة بالمطاعم والمحلات التي تبيع الهدايا والتذكارات.
ميدان تقسيم:
في وسط المدينة يوجد ميدان تقسيم، يمر به في اليوم مئات الآلاف من الناس لأنه يقع في وسط المحلات التجارية والفنادق والشوارع الرئيسية، وسمي بهذا الأسم لأنه كان في مبنى توزيع المياه وتقسيمها على المناطق الأخرى، ومنه يبدأ شارع الإستقلال.
شارع الاستقلال:
يمتد من ميدان تقسيم وهو شارع ملليء بالمحلات التجارية على طول 2 كيلو متر، حيث يعج بمتاجر التسوق والماركات العالمية والتركية، كما يمتلىء بالمطاعم، هذا الشارع النابض بالحياة يكاد يضيق بمن فيه على الرغم من اتساعه واقتصاره على حركة المشاة، حيث تمنع فيه حركة السيارات، إذ يظل يضج بحركة المشاة والمتسوقين حتى موعد إغلاق المحلات الساعة 12 ليلاً، ولا يمكن لمن يزور هذا الشارع إلا ويخصص له زيارة أخرى، سواء للتسوق والاطلاع على ما هو معروض في مولاته ومتاجره، أو لتذوق الكباب التركي الشهي الذي تعبق رائحة شوائه في أنوف المارة، لتجذبهم إلى حيث يتم تحضيره.
ويوجد في وسط الشارع تروماي وفي اثناء السير عبر الشارع نرى في احدى جوانب الطريق مباني قنصليات كل من دول السويد وهولندا وروسيا، وأيضاً كنيستي سانتا ماريا، وسان آنتوان، وفي نهاية الشارع نجد برج غلطه.
برج غلطه:
هو برج من بقايا سور حصن بيزنطي قديم، استخدمه العثمانيين سجناً وبرجاً للكشف عن الحرائق، يُرى من كل مكان في اسطنبول ويقدر ارتفاعه 61 متراً، ويقع في أعلى منطقة غلطه على رأس تل يطل على منطقة القرن الذهبي وبحر مرمرة، ويمكن الصعود لأعلى البرج عن طريق 143 درجة أو بواسطة مصعد، وفي طابقه الأخير يوجد اليوم مطعماً سياحياً، وفي نهاية النزول من الطريق نجد على البسفور جسر غلطه الذي يعبر للجهة الأخرى لميدان امينونو، وأسفل الجسر المعلق توجد مطاعم ومقاهي رائعة الجلسات والاطلالات.
ميدان أمينونو:
لابد لمن كان في اسطنبول من زيارة ميدان أمينونو، حيث يباع السمك المشوي الطازج اللذيذ في المراكب الراسية، والذي يمكن تذوقه قبل عبور الشارع والدخول لثلاث أسوق تعج بالبشر، الأول سوق التوابل الذي يعبق بكل ما لذ وطاب من بهارات ومكسرات وحلوى وخضار طازجة ومجففة، والثاني جراند بزار، والثالث سوق المصريين “اجبشن بازار” الذي بني في منتصف القرن السابع عشر على يد المهندس كاظم آغا وأعيد ترميمه عام 1940 ويباع فيه الملابس والاكسسوارات بالإضافة إلى الأواني المنزلية والمنتجات التراثية، وبعد الخروج منهم والعودة لميدان أمينونو أنصح بتناول العشاء في مطعم “حمدي” حيث يقدم باقة من المأكولات التركية تبدأ بالسلطات المتنوعة، تليها المشاوي الشهية وأصناف الكباب التركي .
سفير مول “أعلى مبنى في اسطنبول”:
في اسطنبول هناك أيضاً مبنى سفير مول الذي يعد المبنى الأكثر ارتفاعاً في أوروبا، والذي يمتلىء بالمتاجر والمحلات المتنوعة التي تبيع أجود أنواع الأحذية والملابس والجلود، وفي الطابق الـ 54 بالمبنى ثمة تراس يمكن الاستمتاع بتناول الغداء فيه، ومشاهدة إسطنبول من الأعلى، حيث تظهر عماراتها ومبانيها المغطاة بالقرميد مرصوفة إلى جانب بعضها البعض، حيث يشعر الزائر وكأنه يراها من الطائرة، وبالإمكان الذهاب للمبنى عبر مترو الأنفاق من أي مكان باسطنبول.
كما توجد مناطق أخرى للتسوق وفيها مباني تاريخية مثل منطقة بايزيد التي يوجد فيها أسواق بجانب مسجد السلطان بايزيد، وأيضاً منطقة أكسراي المليئة بالأسواق التجارية والمطاعم وفيها المقهى البزنطي القديم.. الجميل في اسطنبول أن الباعة الجائلين ينتشرون بعد غلق المحلات، ولا يسببون الزحام فنرى الشوارع والطرقات مليئة بهم في ساعات متأخرة من الليل .
ومن الأكلات التركية المشهورة الأكلة العثمانية تيستي كباب، والتي لها طقوس خاصة حين التقديم، حيث يتم طهي طبق اللحم أو الدجاج والخضار التقليدي ببطء في جرة طينية مختومة، والتي يتم كسرها على الطاولة مباشرة أمام أعيننا، بعد أن يتم الغناء والاحتفاء بها وترتيل بعض الموشحات الخاصة بها أثناء طهيها ووضع الجرة في النار، وأيضأ اسكندر كباب أو شاورما اسكندر، وهي عبارة عن شاورما أو لحم تحته قطع محمصة من الخبر المطهو بالثوم والطماطم، وأيضاً باليك “سندوتش ستيك سمك مشوي” مطهو بطريقة معينة.
بين شوارع المدينة تذكرت أحد أهم أبناءها، الكاتب التركي أورهان باموق الذي قضى شطراً كبيراً من حياته يتسكع في شوارعها ومعالمها يمارس الرسم والقراءة قبل أن يحترف الكتابة، ويرجع الفضل في ذلك لوالدته حيث يقول: “تحولت بعض محادثتي مع أمي إلى جدل مرير، وبعدها أعود إلى غرفتي وأغلق الباب لأقرأ وأغرق في الشعور بالذنب حتى الصباح، كنت أخرج أحياناً بعد جدل مع أمي إلى برودة الليل، وأتجول بشكل متواصل في الشوارع الخلفية المظلمة والسيئة، حتى أشعر بقشعريرة في عظامي، وأعود إلى البيت بعد أن تنام أمي وكل من في المدينة، كنت قد توقفت بشكل يكاد يكون تاماً عن دراسة العمارة وحضور المحاضرات، باستثناء مرات قليلة كان علي أن أحضرها لأتجنب استبعادي وفصلي من الجامعة، وكنت أحياناً أقول في نفسي: حتى إذا لم أصبح مهندساً أبداً، فستكون معي شهادة جامعية، وهي ملاحظة كثيراً ما كررها والدي وأصدقائي وكل من له تأثير، في ما جعل موقفي على الأقل في عين أمي أكثر خطورة، خاصة بعد أن مات حبي للرسم وخلف وراءه خواء كبيراً، وكنت أعرف أنني لا يمكن أن أستمر إلى الأبد في قراءة الكتب والروايات حتى الصباح، أو قضاء الليالي في التجول في الشوارع.. كانت أمي تقول لي لكي تعزز نصائحها المستمرة، أنها اختارت لي اسمي لأنها معجبة بالسلطان أورهان من بين كل السلاطين، والأخير لم يقم بأي مشاريع عظيمة، ولم يحاول أبداً جذب الانتباه إلى شخصه، وعرفت في تلك الأمسيات التي كنا نتجادل فيها أن علي أن أقاوم الحياة السوداوية الوضيعة المنكسرة التي تقدمها اسطنبول، وبهذه المقاومة أحيا الحياة العادية المريحة التي تريدها أمي لي، سألتها مرة على أمل أن تقول شيئاً يجرحني أكثر: تحديداً ما الشيء الذي يفترض أن يؤذيني؟ فأجابت: لا أريد أن يعتقد أحد أنك تعاني متاعب نفسية، لذا لن أخبر صديقاتي بأنك لا تذهب للجامعة، أنت معتز بنفسك جداً، وأحب ذلك فيك، هناك كثيرون في أوروبا أصبحوا فنانين لأنهم اعتزوا بأنفسهم، وكانوا جديرين بالاحترام، لا أحد في هذه البلاد يمكن أن يعيش من الرسم وحده، ستصبح بائساً وسينظر الناس إليك باحتقار، وستبتلى بالعقد والبؤس والقلق حتى تموت.. ويختم أورهان قائلاً: هكذا عدت ليلة وأنا لا أرغب في النقاش، وجلست أمام طاولتي وسجلت على ورقة: لا أريد أن أكون رساماً، سأكون كاتباً”
بعدها خرجت رواياته ومؤلفاته للنور وكان أولها: جودت بيه وأبناؤه عام 1982 ثم تلتها المنزل الهادىء، القلعة البيضاء، الكتاب الأسود، ورد في دمشق، الحياة الجديدة، اسمي أحمر، ثلج، البيت الصامت.. ونال جائزة نوبل في الأدب عن مجمل أعماله في 2006 وكان أول كاتب تركي ينالها، وكل هذه الروايات يعالج فيها قضايا إجتماعية وسياسية صنفت في إطار الواقعية الاشتراكية، وأماكنها القرى والمناطق الجبلية وهو يتحدث فيها عن أوضاع إجتماعية مختلفة يستمدها من التاريخ العثماني .
دولما بهشة: وبعيداً عن أماكن التسوق، من الرائع القيام برحلة بحرية في مضيق البوسفور الذي يخطف الألباب بسحره وهدوئه وجمال وصفاء مياهه، الذي يعج بالمراكب السياحية والقصور والفنادق المشيدة على ضفافه، ومنها قصر دولما بهشة أحد أبرز المعالم الاثرية في تركيا، فزيارة اسطنبول لا تكتمل الا بزيارة هذا الصرح الهندسي والأثري العريق، يقع قصر دولما بهشة على ضفاف البوسفور ويمتد القصر من منطقة قبتاش ولغاية منطقة بشيكتاش.
دولما بهشة يعني “الحديقة المحشوة” دولما تعني المحشو، وبهشة تعني الحديقة، واتخذ القصر هذا الاسم نظراً للمكان الواقع فيه والذي كان بمثابة حديقة غناء واسعة، تنتشر في أرجائها أحواض المياه، والحديقة ذات سور حديدي شاهق أبيض اللون يفصل بينها وبين البحر الذي يكاد يلامس القصر، أمر السلطان عبد المجيد بتشييد هذا القصر، فبدأ بنائه في عام 1843 ليقيم به السلطان في عام 1856 لمدة 5 سنوات إذ توفي عام 1861 أما خليفته السلطان عبد العزيز فقد أجبر على التخلي عن العرش في العام 1876 وسجن في قصر اورتاكوي حتى وفاته، وقد خلفه السلطان مراد الخامس الذي أقام في القصر لفترة، ومن السلاطين الذين أقاموا أيضاً في دولما بهشة السلطان عبد الحميد الثاني الذي حكم 32 سنة ولم يمض في القصر سوى 7 سنوات، والسلطان محمد رشاد الخامس الذي اهتم بترميمه كما دخلت الكهرباء والتدفئة المركزية خلال عهده، وتعاقب على القصر ثمانية سلاطين كما سكنه كمال أتاتورك وتوفي فيه في العاشر من شهر نوفمبر عام 1938 وكل سلطان سكن القصر كان يضيف على الاثاث.
لطالما عرفت هذه الحديقة “دولما بهشة” كونها حديقة شاسعة وقد كانت تشهد مباراة لعبة البولو التركية، وعندما لم يعد سراي الباب العالي أو”توب كابي” ملائماً كمقر للسلطان، جرى البحث عن مكان ملائم لتمضية فصل الصيف، ووقع الخيار على هذا المكان ليبنى القصر في ربوعه ويحمل اسم المكان نفسه.
يعرف قصر دولما بهشة بالقصر ذو الوجهين نظراً للتكرار، فعند دخوله نلاحظ بأن كل ما نراه على يميننا يتكرر على اليسار، من شمعدانات وكراس وأوان ومرايا، ويمتاز دولما بهشة بكثرة الثريات في أرجائه إذ يضم 36 ثريا كما تتدلى من سقفه أضخم ثريا في العالم، إذ تتوسط قاعة الاستقبالات الرسمية ثريا من كريستال البوهيميا بوزن 5.4 طن تلقاها أحد السلاطين هدية من الملكة فيكتوريا.
كما أن صالة استقبال السفراء تتوسطها ثريا من الكريستال البوهيمي أيضاً وتزن 5.2 طن، تبلغ مساحة القصر 99000 متر مربع ويضم 263 حجرة من ضمنها 43 صالوناً و 6 حمامات، ويعود أثاث القصر للقرنين السابع عشر والثامن عشر وتتخلله العديد من التحف الفرنسية، وقد تولى الهندسة الداخلية الفرنسي سيشان، يختزن القصر حوالي 75000 تحفة فنية و290 فازاً وغالبية الثريات والشمعدانات هي من كريستال البوهيميا، وأرفع مستويات الفخامة في هذا القصر، تتجلى بالأعمدة التي تتوسط الحافات الخشبية على جانبي السلالم، إذ تأتي من الكريستال البوهيمي، وتعكس أعمدة الكريستال على مدى ثلاثة طوابق بريقاً رائعاً.
من الملفت في دولما بهشة تلك المدافئ الواقعة في المدخل، والتي تعلوها مرايا من أجزاء الكريستال المقطع والمحاطة بزخرفات ذهبية، يزدان القصر بالذهب من النقوشات الذهبية في السقف والاطارات المحيطة باللوحات ويحتوي على 14 طناً من الذهب.
الجميل في هذا القصر القبة الزجاجية التي تعلوه ما يعكس الأنوار إلى داخله، فأسلوب انعكاس الانوار ملفت جداً فضلاً عن وفرة الشبابيك الزجاجية الشاهقة والقبة التي تعكس الأنوار، نلمح في الاروقة وفي أسفل الحائط قناطر زجاجية ملونة تسمح برؤية البحر وتعكس النور.
غالبية السقوف تحمل رسوماً ونقوشات وقد تداخلت فيها الاطارات الذهبية والبرونزية المزخرفة، كما أن غالبية الأبواب محاطة بإطارات ذهبية، وجمال سقوف القصر لا ينسي التأمل في أرضيته الخشبية التي تتخذ مختلف الاشكال الهندسية والمصنوعة من خشب الورد الجوري والجوز وورد الابانوس.
تكثر اللوحات في القصر لكن يبقى أكثرها تميزاً “لوحة الحجاج” التي تعود للعام 1873 وقد رسمها رسام ايطالي بماء الذهب، ومن خلالها يحكي رحلة الأتراك إلى الحج التي كانت تستغرق تسعة اشهر.
يتخلل القصر قسم يعرف بـ«الخزينة» ويتضمن مصوغات السلاطين وأطقم الشاي من البورسلين الفاخر وأكوابا من الاوبال والفضة وفناجين مرصعة بالاحجار الكريمة والأسلحة الخاصة بالسلطان محمد رشاد.
دولما بهشة يضم 43 قاعة وكل منها تحمل اسماً ولغرض معين، لكن تبقى الأكثر فخامة قاعة الاستقبالات الرسمية والاحتفالات وتبلغ مساحتها 124 متراً، ومن الجدير بالذكر أن قصر دولما بهشة يقابله مسجد يحمل الاسم نفسه بني حسب طراز الامبير والباروك “مصطلح يطلق على أشكال كثيرة من الفن الذي ساد غربي أوروبا وأمريكا اللاتينية، والعصر الباروكي بشكل عام هو الفترة الممتدة من أواخر القرن السادس عشر وحتى أوائل القرن الثامن عشر في تاريخ أوروبا، ومعناه الحرفي شكل غريب” ويتميز الأسلوب الباروكي بالضخامة ويمتلئ بالتفاصيل المثيرة ما يعكس تناغماً مع القصر، وقد شيد المسجد بتمويل من والدة السلطان عبد المجيد وبالتزامن مع بناء القصر.
ويتبع للقصر برج هو برج الساعة وبني عام 1890 في عهد السلطان عبد الحميد، ويقدر ارتفاع البرج 27 متراً ليشكل 4 طوابق، بني الجزء الأرضي من الرخام، والأجزاء الفوقية بنيت من الأحجار المقطعة، وتوجد في أربعة أطراف البرج ساعات لشركة “باوول جارنير” الفرنسية، وتوجد ايضاً في أطرافه الأربع رمز الدولة العثمانية.
ونتابع قي رحلتنا المرور على قصر شيران وقصر بيلار بيه وجامع أورتاكوي وقلعة السلطان الفاتح، وهناك جزء من المضيق على شكل قرن يسمى بالقرن الذهبي وسبب التسمية ترجع حين فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية، كان مدخل المضيق يغلق بواسطة جنزير حديد يمنع دخول السفن إلا المسموح بعبورها، وكان البيزنطينيين يعتقدون من المحال أن تدخل السفن إلا إذا هبطت الشياطين من السماء، فأمر محمد الفاتح بقطع الأشجار وربط جذوعها ببعض على شكل طريق من أسفل الجبل لأعلاه وإنزاله من الأعلى حتى الأسفل من الناحية الأخرى حتى نهايته حيث مياه المضيق، ودهن الطريق الخشبي بالزيت وقام الجنود بسحب المراكب على الطريق لأعلى الجبل ثم الهبوط بها للأسفل في المياه طوال الليل، وفي الصباح كانت أكثر من 80 سفينة قد دخلت مياه المضيق، فاستيقظ البيزنطيين مفزوعين وسلموا المدينة بعد أن ألقوا كل ممتلكاتهم من ذهب ومجوهرات في مياه المضيق فأصبح قاع المضيق يبرق وسمي بالقرن الذهبي.
جزر الأميرات:
ثم نتابع الابحار في بحر مرمرة ومشاهدة أروع وأجمل الجزر التركية التي تسمى بجزر الأميرات، سميت بالأميرات لأنها كانت منفى الأميرات البيزنطيات في العصر البيزنطي، ثم أصبحت مصيف لملكات الدولة لما تتمتع به من خصوصية، وهي عبارة عن 4 جزر وهن: الجزيرة الكبرى (بيوك أدا)، وجزيرة حقيبة السرج، وجزيرة الحناء، وجزيرة القلعة، وممكن إمضاء الوقت فيها والاستمتاع بجمالها وهدوئها بهوائها العليل، وركوب الحناطير والقيام بها بجولة، وأيضاً ركوب الدرجات، وممكن الوصول للجزر من مرفأي”قباطاش” و”السيركجي” والقيام بجولة بالعربات التي تجرها الخيول للتعرف على معالم الجزر .
وتذكرت في كتاب “قصة زعيم” حكاية لها أكثر من دلالة عن رجب طيب أوردغان حين كان عمدة اسطنبول، والتي جاءت على لسان رئيس الأملاك والعقارات خلال تلك الفترة حيث يقول:” كنا قد استصدرنا قراراً بهدم إحدى القرى التي تقع عند نهاية أحد الجداول في اسطنبول، واتفقنا مع أهل القرية بشأن التعويضات المالية المناسبة، وذهبنا للقرية لإتمام عملية الهدم ومعنا رجال الأمن والمعدات والأجهزة اللازمة، واصطحبنا معنا أيضاً فريقاً طبياً، وكنا نبدو لمن يرانا من بعيد أشبه بوحدة عسكرية ضخمة خرجت لإجراء مناورة عسكرية، ولما كان الأمر يتعلق بالهدم وهو موضوع حساس بطبيعته، فقد قرر أوردغان الذهاب معنا ولم يكن في مقدورنا منعه، تقدمنا نحو أهالي القرية الذين امتلأوا بالسعادة والفرح عندما رأوا رئيس البلدية معنا، واستقبلوه بالترحيب والتهليل، وفجأة خرجت من بينهم امرأة عجوز وتقدمت نحونا وقالت لأوردغان: أهلاً ومرحباً بكم يا بني، لقد أعددت لكم لبن العيران ((زبادي مع توم مطحون وملح خفيف يضاف له ماء مثلج)) بيدي فخذ وتذوقه وقل لي، هل يشبه اللبن الذي تصنعونه عندكم؟ فقال لها أوردغان: شكراً يا أماه أتعبت نفسك وسلمت يداك، وكان قد أعجب بالأم العجوز ذات الوجه البشوش الباسم، وتأثر من حسن ضيافتها وطاب له أن يسألها عن أحوال القرية، حيث أنها من أكبر الحاضرين، فقالت: يا بني وجدت نفسي في هذه القرية منذ تفتحت عيناي على الدنيا، فهذه القرية موغلة بالقدم، غير أنها كانت أجمل وأروع مما تراه الآن.. آه لو كنت رأيتها، كانت تكسوها الخضرة وتلفها الأشجار من كل جانب، وكانت أشجار الصفصاف الضخمة تمتد على ضفتي الجدول، حتى إن ذراعيك لا تسعهما الإحاطة بها، ليت هذه الصخور والفروع والأغصان كانت لها ألسنة حتى تحدثكم وتقص عليكم، واغرورقت عيناها بالدموع وهي تحكي عن ذكرياتها في القرية، فكانت تتكلم حيناً ثم تتوقف فتتنهد، وكأن مرارة الحسرة والشوق قد غلبت عليها، فكنا نراها هائمة وهي تقص علينا ذكريات قديمة عن المكان والأحبة والجداول وشروق الشمس وغروبها، وقطعان الماشية ترعى وسط الحقول.. أثرت فينا الأم العجوز وهزت مشاعرنا، وكنت أتمالك نفسي حتى لا يغلبني البكاء، وحين نظرت لأوردغان وجدت الدموع تنساب على وجنتيه، ثم قال لنا: اجمعوا الأجهزة والمعدات سنرحل من هنا، ظننت لوهلة أنه يمزح، لكن عندما نظرت إلى وجهه لا حظت علامات الجد، وبقدر ما فهمته، فإن المحافظ فطن إلى أن أهالي القرية غير راضين عن قرار الهدم، وموافقتهم كانت عن خوف لا عن قناعة، وهكذا عدنا من حيث أتينا” .
بورصة:
أعود وأتابع معكم، أيضاً علينا أن لا ننسى زيارة مدينة بورصة، حيث السير من اسطنبول لمدة نصف ساعة بالسيارة ثم عبور بحر مرمرة بعبارة لمدة نصف ساعة أخرى والوصول للجهة الأسيوية إلى مدينة يالوفا والتي يطلق عليها أيضاً مدينة يلوا، ثم متابعة السير بالسيارة لمدة ساعة أيضاً، وفي الطريق نشاهد مطار صبيحة وهي أول إمرأة في العالم تقود طائرة حربية، وهو مطار أخر غير مطار أتاتورك في الجانب الأوروبي الذي وصلنا لاسطنبول من خلاله، ونواصل السير للوصول لمدينة بورصة المشهورة بمصانع الجينز والحلويات، ثم صعود الجبل العظيم (أولوداغ) بواسطة التلفريك، ودخول غابات خضراء، والغداء في مطعم بين أشجار الغابة على أجمل مناظر طبيعية، حيث يقوم الزوار بشواء طعامهم “الباربكيو” بأنفسهم، ثم النزول مرة أخرى والقيام بجولة في مصانع القطنيات والجينز والحلويات، وتذوق الحلويات التركية من الحلقوم والبقلاوة بالفستق أو الأصناف المصنوعة من الحليب.
صبنجة:
مدينة تقع وسط مقاطعة سكاريا بمنطقة هادئة وحالمة وسط أحضان الطبيعة، وفيها بحيرة طبيعية كبيرة محاطة بسلسلة جبال كارتييه وغابات مليئة بالشلالات وتصلح للتزلج في الشتاء لكثرة سقوط الثلج فيها، ومن يزور صبنجة سيمر على قرية المعشوقية التي تتميز بحدائقها الجميلة وشلالات مياهها الساحرة.
إن كل هذا المزيج في تلك البلاد الرائعة التي تمثل أفضل الأماكن السياحية جمال يكمن بداخله اسرار التاريخ، وليس من باب المبالغة بل من واقع الحال بكل ما فيه من مشقة وعناء، تبقى اسطنبول مدينة تصفية الذهن والحياة والحب والفرح والحرية.