مشاهدات: 63
يا أمَّ معبدٍ ، كرّري أوصافه .
بقلم : الدكتور عمران صبره الجازوي
مرَّ رسولُ اللهِ – ﷺ- وأصحابه في رحلةِ هجرته من مكةَ إلى المدينةِ المنوّرةِ بخيمةِ أمِ معبدٍ – رضي اللهُ عنها – ، فسألها شراءَ شيءٍ يأكلونه ، ولم يكن عندها شيءٌ ، فرأى – ﷺ – شاةً لها هزيلةً ، فاستأذنها في حلبها ، فلم تُمانعْ ، فوضعَ يده الشريفةَ على ظهرها ، وسمَّى اللهَ ، ثمَّ دعا بالبركةِ ، فامتلأ ضرعها لبناً ، فحلبَ في العُسِّ – أي القدحِ الكبيرِ- حتى أرغى ، وقالَ : اشربي يا أمَ معبدِ .
فقالت : اشربْ ، فأنتَ أحقُّ به ، فردَّ عليها فشربتْ ، ثم ناولَ أصحابه ، فشربوا حتى ارتووا وشربَ آخرهم ، وبعدما انصرفوا جاءَ زوجها ، فوجدَ لبناً أعجبه ، فسألها : مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا يَا أُمَّ مَعْبَدٍ وَالشَّاءُ عَازِبٌ حَائِلٌ – أي بعيدةُ المرعى ، ولم تحملْ – ، وَلَا حَلُوبَ فِي الْبَيْتِ ؟
قَالَتْ : لَا وَاللَّهِ إِلَّا أَنَّهُ مَرَّ بِنَا رَجُلٌ مُبَارَكٌ مِنْ حَالِهِ كَذَا وَكَذَا .
قَالَ : صِفِيهِ لِي يَا أُمَّ مَعْبَدٍ .
قَالَتْ : رَأَيْتُ رَجُلًا ظَاهِرَ الْوَضَاءَةِ ، أَبْلَجَ الْوَجْهِ – أي يشرق بالنور – ، حَسَنَ الْخَلْقِ ، لَمْ تَعِبْهُ ثَجْلَةٌ – هي عظم البطن مع استرخاء – ، وَلَمْ تُزْرِيهِ صَعْلَةٌ – أي طول بائن – ، وَسِيمٌ قَسِيمٌ – أي جميلٌ حسنُ الهيئةِ – ، فِي عَيْنَيْهِ دَعِجٌ – أي شديدُ سوادِ العينِ – ، وَفِي أَشْفَارِهِ وَطَفٌ – أي طولُ أشفارِ العيون – ، وَفِي صَوْتِهِ صَهَلٌ – حدةُ الصوتِ وصلابته – ، وَفِي عُنُقِهِ سَطَعٌ -إشرافٌ وطولٌ – ، وَفِي لِحْيَتِهِ كَثَاثةٌ – دقةُ نباتِ شعرِ اللحيةِ مع استدارةٍ -، أَزَجُّ أَقْرَنُ – دقةُ شعرِ الحاجبينِ مع طولٍ فيهما ، واتصالِ ما بينهما – ، إِنْ صَمَتَ فَعَلَيْهِ الْوَقَارُ ، وَإِنْ تَكَلَّمَ سَمَاهُ وَعَلَاهُ الْبَهَاءُ ، أَجْمَلُ النَّاسِ وَأَبْهَاهُ مِنْ بَعِيدٍ ، وَأَحْسَنُهُ وَأَجْمَلُهُ مِنْ قَرِيبٍ ، حُلْوُ الْمَنْطِقِ فَصْلٌ لَا نَزِرٌ وَلَا هَذِرٌ – كلامه بينٌ واضحٌ ليس كثيراً ، وليس قليلاً – ، كَأَنَّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ يَتَحَدَّرْنَ ، رَبْعَةٌ لَا تَشْنَأَهُ مِنْ طُولٍ – طوله ليس مفرطاً – ، وَلَا تَقْتَحِمُهُ عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ – لا يُحتقرُ لقصره – ، غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ ، فَهُوَ أَنْضَرُ الثَّلَاثَةِ مَنْظَرًا وَأَحْسَنُهُمْ قَدْرًا ، لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفُّونَ بِهِ – يحيطون به – ، إِنْ قَالَ : سَمِعُوا لِقَوْلِهِ ، وَإِنْ أَمَرَ تَبَادَرُوا إِلَى أَمْرِهِ ، مَحْفُودٌ مَحْشُودٌ – يخفُّ الناسُ لخدمته – لَا عَابِسٌ وَلَا مُفَنَّدٌ – الفند الخطأ في القول والرأي والكذب أي لم يكن فيه شيءٌ من تلك الصفاتِ – .
قَالَ أَبُو مَعْبَدٍ : هَذَا وَاللَّهِ صَاحِبُ قُرَيْشٍ الَّذِي ذُكِرَ لَنَا مِنْ أَمْرِهِ مَا ذُكِرَ ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَصْحَبَهُ ، وَلَأَفْعَلَنَّ إِنْ وَجَدْتُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا. رواه الحاكمُ في مستدركه .
فهنيئاً لكِ يا أمَ معبدٍ أن اكتحلتْ عيناكِ برؤيةِ خيرِ من وطئَ الثرى ، فحلّتْ عليكِ بركته – ﷺ – بقسميها الماديِّ والمعنويِ إذ تمثّلَ المادي في امتلاءِ ضرعِ شاتكِ الهزيلةِ ، وشربكِ من يده – ﷺ- ، والمعنوي في مبايعتكِ على الإسلامِ ، واستنارةِ قلبكِ بنورِ الإيمانِ ؛ لأنَّ الله – سبحانه وتعالى – قد خوَّلَ من رآه – ﷺ – ، وآمن به ، واتبعه ميزةَ لم تتسن لغيره إذ أن من رآه ولو لحظة استنار قلبه بنور الإيمان، وأزهر فيه مصباحه، لأن لرؤية الصالحين أثرًا طيبًا فما بالنا برؤية سيد المرسلين يقول الزركشي: “..وذلك أن رؤية الصالحين لها أثرٌ عظيمٌ فكيف رؤية سيد الصالحين، فإذا رآه مسلمٌ ولو لحظة انصبغ قلبه على الاستقامة؛ لأنه بإسلامه تهيأ للقبول، فإذا قابل ذلك النور العظيم أشرف عليه، وظهر أثره في قلبه وعلى جوارحه..” الزركشي : البحرُ الحيطُ في أصولِ الفقهِ ج /4 ص 370
أما نحنُ فلن أخفيكِ سرّاً ، ضروعنا جفّتْ ، وشياهنا صارتْ عجافاً ، وقلوبنا قد غوتْ ، وخطانا تاهتْ ، وتنكّبنا الصراطَ ، ولله درُّ القائلِ :
يا أمَّ معبدٍ ، كرّري أوصافه
فالضرعُ جفَّ ، وشاتنا عجفاءُ
يا أمَّ معبدٍ ، بلّغي عن حالنا
فالقلبُ غاوٍ ، والخطا عرجاءُ
تاللهِ ما أحوجنا إلى إشراقةٍ من نورِ نبينا – ﷺ – لنستضيء بها في طريقنا إلى اللهِ – عزَّ وجلَّ – إذ عقائدنا يا أمَّ معبدٍ قد أصبحتْ مدخولةً بعدا أصابها رذاذُ الشركِ ، وعكّرت صفوها أدرانُ الإلحادِ ، وتفرّقنا أيادي سبأٍ ، وصرنا فرقاً متناحرةً ، ومذاهبَ متعددةً ، وولّتْ كلُّ طائفةٍ منّا وجهها شطرَ النصوصِ القرآنيةِ والحديثيةِ تلوي أعناقها ، وتُحمّلها مالا تحتملُ ؛ لتشهدَ لها على ما ذهبتْ إليه .
يا أمَّ معبدٍ ، لقدْ كان إيمانكم بالمشاهدةِ ، وإيماننا بالخبرِ ، والإيمانُ بالمشاهدةِ عينُ اليقينِ ، أما الإيمانُ بالخبرِ فعلمُ اليقينِ ، والبوْنُ بينهما واسعٌ ، والفرقُ شاسعٌ .
يا أمَّ معبدٍ ، ليهنكِ ما أنتِ فيه عمَّا أصبحنا فيه ، فلقدْ قوي يقينكم ، ورسختْ أقدامكم في دينكم ؛ لأنكم حضرتم وغبنا ، واستيقنتم واستربنا ، وتوالتْ علينا فتنٌ كقطعِ الليلِ المظلمِ يصبحُ الرجل مؤمناً ويمسي كافراً – عياذاً باللهِ – ، ويمسي مؤمناً ، ويصبحُ كافراً ، وتعرّضنا للشبهاتِ – الشبهةُ واردٌ يردُ على القلبِ يحولُ بينه وبينَ انكشافِ الحقِّ – تارةً ، وللشهواتِ – الشهوةُ تقديمُ الهوى على طاعةِ اللهِ ومرضاته – تارةً أخرى ، فأورثتْ الشبهاتُ شكّاً في دينِ اللهِ ، وأورثتْ الشهواتُ اجتراءً على فعلِ ما يُغضبُ اللهَ ، فقلَّ من من يسلمْ ، أما أنتم فلمْ تفسدْ الشهوةُ دينكمْ ، ولم تُزلْ الشبهةُ يقينكمْ .
يا أمَّ معبدٍ ، شربتِ من يديه فامتلأتِ ريّاً وإيماناً ، أما نحنُ فنفوسنا ظمأى تتوقُ إلى شربةٍ من يديه لترويها ، وتملؤها سكينةً وطمأنينةً .
يا أمَّ معبدٍ ، استنارتْ دنياكِ بقدومه – ﷺ- ، واظلمتْ دنيانا بفقده ، هانت عليكمْ مصائبُ الدنيا ؛ لوجوده بين ظهرانيكم ، وعظمتْ بلايانا ؛ لأننا لم نحظَ برؤيته ، ولم يشرقْ علينا بطلعته .
يا أمَّ معبدٍ ، جفّتْ مآقينا من كثرةِ الدموعِ ، ونفذَ صبرنا ؛ لقلةِ الخشوعِ ، وصُمّتْ آذاننا عن منادي الأوبةِ والرجوعِ ، وأضحتْ حاجتنا إلى رسولنا – ﷺ – أمسَّ من حاجتكم إليه ، ولكنَّ عزاءنا فيما تقاطرْ من شفتيه ، إذ قال – ﷺ- :” إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ – إذا أرادَ رحمةَ أمةٍ من عباده قبضَ نبيها قبلها ، فجعله لها فرطاً وسلفاً – أي سابقاً ومُقدّماً وشفيعاً – بينَ يديها ، وإذا أرادَ هلكةَ أمةٍ ، عذّبها ونبيها حيٌّ ، فأهلكها وهو ينظرُ ، فأقرَّ عينه بهلكتها حينَ كذّبوه وعصوا أمره ” رواه مسلمٌ .
فاللهم إنَّا إخوانه – ﷺ – آمنا به ولَم نره ، وإن كان قدرك قد حالَ بيننا وبينَ لقائه في الدنيا ، فاجمعْ بيننا وبينه في الآخرةِ .
اللهم إنَّا رجوناكَ فلا تخيّبْ فيك رجاءنا ، وأمّلناكَ فلا تقطعْ – برحمتكَ – آمالنا .