متحف الأحزان
بقلم: عمر الشريف
اشتُهر في الشعر العربي قديماً أن تكون بداية القصائد بذكر الوقوف على أطلال الأحبة، وتذكّر ما كانت تحويه هذه البيوت والجدران من ذكريات هيّجت لشاعرنا العربي قريحة الشعر ، وفجّرت لديه أبياتاً طوالاً قالوها بحرقة قلب ودموع أسى، تجعل من يطالع أشعارهم يقف على عظيم أحزانهم على ما كان وشدة تألمهم على ما أصبحوا عليه بعد فقد الأحبة، وذلك أن النفس مهما تناست أحزانها فإن آثار الأحبة ومنازلهم تثير في النفس المشاعر والأشجان، والشعراء هم خير من يعبر عن المشاعر بقصائد وأبيات ملأت الدواوين العربية .
ولكن الملاحَظ أن الكثيرين منا قد ورث هذه العادة القديمة وتعمّقت في مشاعرنا حتى أصبح البكاء على الأطلال لا يقتصر على الشعر فحسب، فقد أصبح لكل منا أطلاله الخاصة التي يقف عندها متفجعاً أحزانَه الموروثة من الماضي الذي أتعبه وأضناه.
فالأطلال في عصرنا الحالي لم تعد مجرد آثار بيوت الأحبة وديارهم كما كانت في الشعر القديم، بل أصبحت تلك الذكريات الحزينة والمواقف المؤلمة التي مررنا بها في مجريات حياتنا، ثم نصبناها آثاراً باقية نطوف حولها ونصمد لها كلما مررنا بلحظة ضعف في حياتنا، كما أننا صيّرنا مساحات واسعة من نفوسنا متحفاً وزّعنا في زواياه تماثيلَ لتلك الذكريات الحزينة، وأصبحنا نزور ذلك المتحف بين الحين والآخر نسترجع الهمّ ونضارع الغمّ، ونطوف في أرجائه مكتئبين متثاقلين من هذا الإرث المزعج الذي جعل الأرض ضيقة علينا بما رحُبت .
ويظهر أثر هذا واضحاً عندما تتكاثر علينا الهموم والأحزان وتتراكم وتتراكب بعضها على بعض لتغدوَ سداً منيعاً يقف حاجزاً بيننا وبين أيّ أمل جديد في الحياة، أو غشاوةً داكنة على بصائرنا تجعلنا نرى الأشياء بمنظور سوداوي معتم يثير في أنفسنا الكآبة والسخط والاضطراب من كل شيء، وفي كثير من الأحيان نضيق ذَرْعاً بالحياة ويخبو عندنا أيُّ بصيص لأي أمل، نعيش حينها مصارعين لأمواج الخيبة والإحباط لا نعرف سبيلاً للنجاة لينتهي بنا الحال غرقى في ظلمات بحر الكآبة وفقدان الدافعية نحو المستقبل وانعدام الثقة بالنفس.
وهنا أسأل نفسي وإياكم: ألا نستطيع رغم كل ما قلت أن نخفّف شيئاً من عبء بكائنا على الماضي، ألا نستطيع أن ندع الماضي يمضي بذكرياته وآلامه كما مضى بأحداثه وزمانه؟
لماذا نُصِرّ على تعذيب أنفسنا وجلد ذاتنا بطريقة تزيد من حالنا سوءاً يوماً بعد يوم؟! لماذا نوقد في أنفسنا الألم من رماد مصيبة مرّت وذهبت لحال سبيلها؟! لمَ كل هذا التفجّع والمرارة على ما كان وتضييع ما سيكون؟!
ما الفائدة المرجوة من كل هذا مادام أنّ ما مضى قد مضى بغض النظر عن تفاصيل ذكرياته المحزنة وكيف حدثت، ولِمَ حدثت ومن المسؤول عنها؟
صحيح أننا لن نستطيع أن نمنع أنفسنا من التفكير بما كان، ولكن بإمكاننا أن لا نجعل من هذا التفكير سمّاً دفيناً في أعماقنا يقتلنا بين الحين والآخر، فعلينا أن نتناسى بذكاء تلك الذكريات الحزينة، ولا ننظر إلى الماضي إلا لنأخذ منه العبرةَ ولنتعلّم منه الدرسَ خشيةً أن نقع في الخطأ مرة أخرى، لنتوقف عن نبش الآلام وكفانا هدراً لحاضرنا وتضييعاً لمستقبلنا.