ما أعظمها من هدايات بحجم الأرض والسماوات
بقلم د/ محمد بركات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
إن تكون مسلما صالحا مؤمناً موحداً فهذه نعمة ما بعدها نعمة.
لا تقاس بحجم الأرض والسماوات ، فالهداية من الله وحده ، ولها أسبابها ومحصلاتها .
لا زلنا مع القرآن الكريم كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
يقول الله تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ ۖ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }
(سورة يونس ، الآية: 9)
جاء في تفسير شيخ المفسرين وإمامهم القرطبي في تفسيره رحمه الله تعالى:
قوله تعالى إن الذين آمنوا أي صدقوا .
وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم أي يزيدهم هداية ; كقوله : والذين اهتدوا زادهم هدى .
وقيل : يهديهم ربهم بإيمانهم إلى مكان تجري من تحتهم الأنهار . وقال أبو روق : يهديهم ربهم بإيمانهم إلى الجنة .
وقال عطية : يهديهم يثيبهم ويجزيهم . وقال مجاهد : يهديهم ربهم بالنور على الصراط إلى الجنة ، يجعل لهم نورا يمشون به .
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقوي هذا أنه قال : يتلقى المؤمن عمله في أحسن صورة فيؤنسه ويهديه ويتلقى الكافر عمله في أقبح صورة فيوحشه ويضله . هذا معنى الحديث . وقال ابن جريج : يجعل عملهم هاديا لهم . الحسن : يهديهم يرحمهم .
قوله تعالى تجري من تحتهم الأنهار قيل : في الكلام واو محذوفة ، أي وتجري من تحتهم ، أي من تحت بساتينهم . وقيل : من تحت أسرتهم ; وهذا أحسن في النزهة والفرجة .
{ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
(سورة يونس ، الآية: 10)
قوله تعالى دعواهم فيها سبحانك اللهم دعواهم : أي دعاؤهم ; والدعوى مصدر دعا يدعو ، كالشكوى مصدر شكا يشكو ; أي دعاؤهم في الجنة أن يقولوا سبحانك اللهم .
وقيل : إذا أرادوا أن يسألوا شيئا أخرجوا السؤال بلفظ التسبيح ويختمون بالحمد .
وقيل : نداؤهم الخدم ليأتوهم بما شاءوا ثم سبحوا .
وقيل : إن الدعاء هنا بمعنى التمني قال الله تعالى ولكم فيها ما تدعون أي ما تتمنون . والله أعلم .
قوله تعالى وتحيتهم فيها سلام أي تحية الله لهم أو تحية الملك أو تحية بعضهم لبعض : سلام . وقد مضى في ” النساء ” معنى التحية مستوفى . والحمد لله .
قوله تعالى وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين فيه أربع مسائل :
الأولى : قيل : إن أهل الجنة إذا مر بهم الطير واشتهوه قالوا : سبحانك اللهم ; فيأتيهم الملك بما اشتهوا ، فإذا أكلوا حمدوا الله فسؤالهم بلفظ التسبيح والختم بلفظ الحمد .
ولم يحك أبو عبيد إلا تخفيف أن ورفع ما بعدها ; قال : وإنما نراهم اختاروا هذا وفرقوا بينها وبين قوله عز وجل : أن لعنة الله وأن غضب الله لأنهم أرادوا الحكاية حين يقال الحمد لله .
قال النحاس : مذهب الخليل وسيبويه أن أن هذه مخففة من الثقيلة .
والمعنى أنه الحمد لله . قال محمد بن يزيد : ويجوز ” أن الحمد لله ” يعملها خفيفة عملها ثقيلة ; والرفع أقيس .
قال النحاس : وحكى أبو حاتم أن بلال بن أبي بردة قرأ ” وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ” .
قلت : وهي قراءة ابن محيصن ، حكاها الغزنوي لأنه يحكي عنه .
الثانية : التسبيح والحمد والتهليل قد يسمى دعاء ; روى مسلم والبخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب : لا إله إلا الله العظيم الحليم . لا إله إلا الله رب العرش العظيم . لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم .
قال الطبري : كان السلف يدعون بهذا الدعاء ويسمونه دعاء الكرب .
وقال ابن عيينة وقد سئل عن هذا فقال : أما علمت أن الله تعالى يقول ” إذا شغل عبدي ثناؤه عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ” . والذي يقطع النزاع وأن هذا يسمى دعاء وإن لم يكن فيه من معنى الدعاء شيء وإنما هو تعظيم لله تعالى وثناء عليه ما رواه النسائي عن سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوة ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لن يدعو بها مسلم في شيء إلا استجيب له .
الثالثة : من السنة لمن بدأ بالأكل أن يسمي الله عند أكله وشربه ويحمده عند فراغه اقتداء بأهل الجنة ; وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها .
الرابعة : يستحب للداعي أن يقول في آخر دعائه كما قال أهل الجنة : وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ; وحسن أن يقرأ آخر والصافات فإنها جمعت تنزيه البارئ تعالى عما نسب إليه ، والتسليم على المرسلين ، والختم بالحمد لله رب العالمين .
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء همومنا وغمومنا وحجة لنا لا علينا يا أرحم الراحمين.