“قطار لومباردي”
قصة قصيرة
بقلم / سعيد رضواني
من أعلى الجبل إلى أسفل الحكاية أركض بقدم وقلم، أركض بين الأعشاب والممرات، بين الجمل والفقرات. أركض باتجاه الأسفل، باتجاه محطتين، محطة السفر في القطار، ومحطة السفر في الإبداع.
أسحب تذكرة واقصد المدرج، وفي الحال يتوقف قطار السادسة، والأرجل التي كانت قبل قليل تتبختر في المحطة ها هي تهرول، الآن، باتجاه العربات. والأعين التي كانت تسترق النظر إلى بعضها البعض أخذت تنشغل بالبحث عن المقاعد الملائمة، بينما أنتظر أنا استقرار الأجساد على المقاعد لأبحث عن مقعد فارغ.
أشغل نفسي عمّا في داخل القطار بما في خارجه، أشغلها بتأمل تراجع واجهات المنازل والأشجار وأعمدة الكهرباء وبعالم يتوشح برداء المساء، مساء كأن حدود نهايته تنتهي عند جدران عربات القطار المبطن بالضجيج.
تستقر الأجساد على المقاعد مخلفة بعض الكراسي الفارغة. أقصد أحدها وأجلس وأنا أجاهد لتجاهل صوت الناس وضجيج العجلات، بينما ذهني يحاول الانشغال بربوة أترقب لحظة الوصول إليها، ربوة تطل على محطة الوصول،ربوة تحضنني وصديقي في جلسة ممتعة تصيخ أذناي فيها السمع لِما سيحكيه لي عن تفاصيل سفره، وتتمتع فيها عيناي بمناظر الأشجار والأعشاب والزهور المتناثرة في كل الاتجاهات المترامية على مرمى البصر، بينما حديد عجلات قطار السادسة الذي يقلني منشغل بِطيّ حديد السكة وإرساله إلى الوراء، إلى حيث خلفت عرباته محطة الانطلاق وفراسخ طويلة من سكة تعبر منازل المدنوأحراش البوادي وأشجار الغابات، وحيث خلفت أنا مخطوطة قصة تتضمن أوصاف هذه المدن وأسماء تلك البوادي والغابات، قصة تنتظرني بشوق فوق مكتبي الخشبي لأطَعِّمها بتفاصيل الحكاية التي سيرويها لي صديقي، وأغذي بها حبكة القصة. وأناملي التي ظلت مندسة في جيوبي ها هي الآن تنشغل بتمشيط شعر رأسي، وكلها توق إلى رحلة في الاتجاه المعاكس لتبدل التمشيط الممل بالكتابة التي أحبها، بينما جسدي الذابل منزو بقميصه الأبيض ودقنه الحليق في هدوء ضاما محفظتي المزركشة إلى صدري، تاركا لذهني حرية المضي إلى الأمام واستباق القطار إلى محطة الوصول، ومن تم إلى جلسة في أعلى الربوة أنصت فيها لِما سيحكيه لي صديقي عن القطار الغامض الذي اختفى قبل أكثر من قرن في نفق بإيطاليا وعاد للظهور في أزمنة لاحقة وأمكنة بعيدة، مثلما ظهر في الأسبوع الماضي في المكان الذي كان صديقي يمضي فيه عطلته. والقلم الذي ظل جامدا بين أناملي جمود الورقة التي أضعها أمامي اهتز متناغما مع إيقاع اهتزاز العربة ونقر برأسه على الورقة ملطّخا صفحتها البيضاء بنقطة سوداء.
تدعوني النقطة السوداء إلى تأمل نقط أخرى فأتأملها في نقطة قرص الشمس البرتقالي الذي يستعد للتواري خلف الأفق الذي أتأمله من النافذة، وأتأملها في نقطة الخال الذي كان يزين ذقن تلك المرأة التي هجرتني مخلفة نقطة في
ذهني تختزل الكثير من الذكريات، وكأن هذه النقط ثقوب سوداء تبتلع ما مضى من حياتي ثم ترتد منفجرة من جديد في الذاكرة، فتشرع في التوسع والتمدد فاسحة المجال للذهن كي يتلاعب بها حاذفا ما يكره ومضيفا ما يروقه. نقط وفواصل في حياتي، مرت في سكة ذهني مرور القطار على سكة الحديد. والتناظر بين فواصل الحياة وفواصل الترقيم الذي خطر على بالي شدّ انتباهي وأوقعني في طقس تأمليّ شرد بي إلى عوالم متعذرة الوصف، عوالم وقعت أسير غرامها،عوالم أخذني الولع بها إلى مدى وجدت نفسي فيه عند تخوم غرابته أقارن الشيءباسمه، والاسم بالحروف التي تشكله، وأقارن كل تفصيل في الحياة بتطريز لغوي يعكسه على ورقة ما، أقارن وأقارن إلى أن تحول العالم من حولي إلى لغة بدت لي أفضل وأبقى من عالمي الآيل للزوال. أخذت أقارن الانتقال بين محطات حياتي بالانتقال بين الفقرات التي أكتبها. تتداخل في ذهني وعلى الورقة صور ومشاهد مر فيه قطار ذهني بأنفاق كثيرة أشد ظلمة من النفق الذي يقترب منه هذاالقطار.
يتوشح المساء بشبه ظلام تسدله على العربات جدران النفق الذي دخله القطار. يختفي الأفق من النافذة ويحل محله جدار يكاد يطبق على العربة، بينما ذهني مشغول بلعبة التناظر. أفكر في النفق فيستحضر ذهني حروف الكلمة التي
تشكله ومعها يستحضر قطار زنيتي الذي دخل نفقا من أنفاق إيطاليا ولم يغادره قط مخلفا سكة صدئة مهجورة ونفقا مغلقا للأبد، ومخلفا أيضا تفاصيل حكاية يتداولها الناس على مر السنين، حكاية انعكست على شاشة ذاكرتي بكل تفاصيلها
التي نقلتها إليّ الكلمات. أتأمل الحكاية وأتذكرها كلمة كلمة وحرفا حرفا. تدعوني الكلمات إلى ممارسة شكل آخر من التناظر فأنهمك على ورقة أمارسه بالقلم على
أمل أن تشكل الأحرف على الورقة بعض الإضافة للقصة التي تنتظرني على مكتبي الخشبي.
يمضي القلم على الصفحة البيضاء منهمكا في تطريز العالم وما فيه، بينما أنا منتش بالشعور الجميل الذي تولده في نفسي الكلمات التي تنبثق من العدم،ومستمتع بالشعور الغريب الذي يولده تَسيّدي على هذا العالم الورقي الذي أسيطر عليه، الذي أتحكم في حركاته وسكونه، حركات العالم وجموده اللذين ينبثقان من حركات الحروف وسكونها. والرحلة التي أعبرها بقطار السادسة أخذت تتخللها رحلة أخرى على الورق، رحلة امرأة تنطلق متدثرة في معطف رمادي من أول طابق في العمارة إلى آخرة سطر في القصة. امرأة تستقل قطار الخامسة وتمضي مجتازة مآت الفراسخ وبضع صفحات والكثير من الأنفاق. والعربات التي تصطف خلف بعضها البعض مزهوة بالسرعة التي تنقلها لها القاطرة التي تستعد للدخول إلى النفق، بينما أدخل أنا إلى أشد دروب السرد وعورة حيث يتداخل الذي أعيشه مع الذي أكتبه، وحيث تنعدم الحواجز التي تفصل المجسم عن المخطوط والملموس فيبدو لي قطار الخامسة وقطار السادسة وكأنهما قطار واحد يقطع سكة حديدية من بداية الطريق إلى نهاية قصة ونهاية رواية في تداخل عجيب يجعل من القطار المدمج وكأنه يسير على سكة أحد قضبانها من حديد والآخر من سطور على الورق، بينما القلم يسافر مختالا عبر الكلمات في متاهة الحكاية، منتشيا بسيطرته على الوضع الذي يجعله يترقى سطرا بعد آخر إلى أن يتسيّد على كل شيء، ويغدو متحكما في حياة المرأة بطموحها ووجهتها وهدفها
من الرحلة، وفي حياتي بماضيها وحاضرها والمستقبل، مؤججا في نفسي نار الرغبة في التمرد على شرطي البشري، والتناغم مع قدري القصصي وقدر قطار الخامسة الذي تؤثت تفاصيل أحداثه امرأة منزوية في أحد المقاعد بجسدها النشيط ومعطفها الرمادي تسند ذقنها البض على قبضة يدها الناعمة متأملة عوالم تستحضر ذاكرتها كل تفاصيلها الدقيقة المرعبة التي تنوي أن تضاعف رعبها في مخطوط رواية تنتظرها على مكتبها الزجاجي، مخطوط رواية متعطشة فصولها إلى تفاصيل التجربة التي عاشتها صديقتها العائدة من رحلة سياحية شاهدت خلالها قطار لومباردي يمر على إحدى القرى بعد اختفائه في نفق منذ أكثر من قرن.
أصيغ فقرة أحاول جعلها محكمة، فقرة أفصل فيها قطار السادسة الذي يقلني عن قطار الخامسة الذي يقلها. وبعد بضعة سطور يمضي كل قطار في سكة منفصلا عن الآخر. كل إلى قدره المحتوم.
تنهمك المرأة على ورقة وتخط عليها ما يخطر على بالها من أحداث ومشاهد وتفاصيل يمكن أن تطعّم بها روايتها التي تدبج بعض فصولها داخل العربة، بينما قطار الخامسة الذي يقلها والذي كان قبل لحظات ينزلق على الورق ويسير حيثما يسيل الحبر متجها من بداية القصة إلى نهايتها، يمضي الآن مهتزا على سكة من خيال وصفحة من ورق وبداخله يهتز قطار آخر يعبر سطور الرواية والمسافات بقلم حبر وعجلات من ورق. ليشكل فصول رواية تتخللها رحلة شيخ ينطلق من بيته السفلي إلى آخر سطر في الرواية. شيخ يستقل قطار
الرابعة وينزوي في أحد المقاعد، بينما المرأة منغمسة في كتابة فصل من حكاية ينطلق فيها هذا الشيخ من أول منزل في الحي إلى آخر كلمة في الرواية، ينطلق مستقلا قطار الرابعة الذي يخلف الآن وراءه على السطور فيافيا وفقرات، اشجاراوكلمات، أحجارا وفراغات، فراغات ما بين الأسطر، وفراغات ما بينه وبين هذا العالم الذي خان واقعه واستسلم للكلمات استسلام السارد للجمل والفقرات، بينما تنتاب المرأة رغبة جامحة في التلاشي من العالم والتجلي في الورق، مثل
الشخوص التي يضيئها بريق الأحرف والعبارات، بريق الكلمات والجمل التي تتغذى منها ومما يحيط بها لتعكس ما تحلم أن تحققه على صفحة تضاعفت إلى صفحات، صفحات تنعكس عليها حياة أخرى ذات معنى، حياة شيخ منزو في
عربة من عربات قطار الرابعة يحاول بخياله الانفلات من عبث العيش ودوامة الاجترار، والانصهار في معنى آخر ينتفض ضد الرتابة. والأشجار التي تتراجع على شاشة النافذة أخذت تتداخل فيما بينها وتفقد ملامحها أكثر كلما تسارع
القطار، بينما قرص الشمس غير العابئ بالسفر إلى الأمام، يبدو منتشيا باحتلاله مكان الجدار الذي يتخلف في الوراء. والشيخ الذي ظل متجمدا في مكانه ها هو الآن يخرج هاتفه ويسافر بذهنه إلى زمن ومكان آخرين، إلى نفق دخله قطار ولم يغادر إلا مرة كل عقد أو جيل، بينما جسده الهرم يكاد يتلاشى كهذا المساء الذي يسافر فيه على متن قطار، وتسافر فيه، على سكك الحديد، الكثير من القطارات.
يدخل قطار الرابعة إلى نفق، فيهز الرعب قلب الشيخ. يرتبك ذهنه ويتلاعب به، يخدعه فيشعر بأنه لا يقرأ عن الحدث بل يشارك فيه، وبأن النفق الذي هو فيه ليس نفقا في الرباط بل نفقا في طريق يربط روما بلومباردي وأنه هو نفسه يستقل نفس القطار الذي يقرأ عن أحداثه في شاشة هاتفه، يستقل ذلك القطار الذي اختفى قبل أكثر من قرن. تتسارع دقات قلبه ومعها يتسارع القطار. يتسارع ويتسارع إلى أن ينحرف عن سكته. يغمض ويحاول تهدئة نفسه بكون قطار لومباردي مجرد قطار ورقي ضخ فيه الرواة الذين تناقلوا أخباره روحا من حديد، وأن هذا القطار الأسطوري لم يعبر نفقا من الاسمنت بل نفقا من اللغة أحكم الرواة بناءه بالحروف والكلمات.
تتناسل الأسئلة في ذهنه، تتضاعف وتتكاثر، تتجاذب وتترابط وعبر الخيط الناظم لإيقاعاتها يسري وميض يضيء ذهنه فينكشف له سر اللغز.
على نحو غامض يدرك أن أحداث قطار لوباردي قد وقعت بالفعل، وليس بمقدور أحد الآن أن يلم بكامل تفاصيلها. قد تكون حادثته مجرد حادثة عادية لقطار اختفى في نفق انهارت أرضيته وابتلعته حفرة ما، لكن السنين جعلت منه قطارا أسطوريا تزداد غرابة وقائعه كلما انحرف أكثر على ألسنة رواة حكايته الذين يتلاعبون في مصير أحداثه بالحذف والإضافات ويجعلون منه قطارا يسلك طريق الألغاز الغامضة التي تتناقلها الأجيال.
يشعر وكأن هناك يد خفية متآمرة ساهمت في انتقال سلس حوله من قارئ عن الحدث إلى مفكك للغزه. يخرج قلما ويشرع في كتابة مقالة تفسر للعالم حكاية انزلاق قطار من السكة إلى اللغة، حكاية تناقلتها الأجيال بتواتر غير أمين حولتها إلى أسطورة معاصرة.
ينتابه شعور بانتشاء فيقرر مغادرة قطارة الرابعة في المحطة القادمة كي يحتسي قهوة ويدخن سيجارة مستمتعا باكتشافه، ثم يكمل طريقه في قطار الخامسة.
يستقل قطار الخامسة وينزوي في مقعد قرب النافذة منشغلا بتمشيط لحيته غير آبه بما في داخل القطار وما في خارجه. يلتفت يمينا فيرى امرأة منهمكة على ورقة تصيغ جملا وفقرات. يدقق النظر في الجمل حجم الفاجعة، يدرك أنه مجرد خيال حظي بفرصة وجود بفضل قلم هذه الروائية.
تضع المرأة القلم والأوراق في حقيبتها وتقرر أن تنزل في المحطة القادمة تحتسي قهوة وتحتفل بإتمامها فصلا من فصول الرواية، ثم تستقل قطار السادسة وتكمل السفر.
تستقل قطار السادسة وتجلس على مقعد بجانب رجل ينشغل أحيانا بالنقر بأصبعه على دقنه الحليق وأحيانا أخرى بتسوية ياقة قميصه الأبيض، وبين فينة وأخرى يخرج أوراقا بيضاء من محفظته المزركشة ويشرع في كتابة بعض الجمل والكلمات. تسترق النظر إلى الكلمات فتجفل… تتأملها… تحدق فيها.. تقرأها وتعيد قراءتها فتدرك حجم الفاجعة، تدرك أنها مجرد خيال حظي بفرصة وجود بفضل قلم هذا القصاص.
يصل القطار إلى سفح الربوة حيث ينتظره صديقه ليحدثه عن تجربته.
يتأمل قرص الشمس من نافذة القطار فيغذي منظر الغروب الجميل انشاءه بالسطور التي خطها فيقر العودة في نفس القطار إلى بيته كي لا يضيع فرصة المنظر الجميل المرسوم على زجاج النافذة، وفرصة تأمل حبكة القصة التي تنمو وتتطور. يخرج هاتفه ويتصل بصديقه ليؤجل اللقاء، ويظل في مكانه منتظرا انطلاق القطار في الاتجاه المعاكس.
يلفظه القطار ويتلقفه التراب. درب بعد آخر، ومنعرج على اليمين ونظير له على اليسار، فروع شجيرات تخدش قميصه الأبيض وتشتبك بمحفظته المزركشة. ومن أسفل القصة إلى أعلى الجبل يقوده طريق لولبي رأسا إلى بيتي.
ودون أن يطرق الباب يدفعه ويدخل إلى الحديقة. يجتاز الحديقة ويدخل إلى المنزل. يقصد غرفة الكتابة ويجلس حيث أجلس أنا الآن، ويشرع في تأمل ما كتبته على صفحات الأوراق. يقرأ ويقرأ ويقرأ حجم الفاجعة، يدرك بأنه هو نفسه الذي تلاعب بمصير القطار في رواية إحدى بطلاته وفي قصته، هو أيضا كان متلاعبا به، وأن فرحته برحلة الذهاب والإياب على متن القطار لا تعدو أن تكون مجرد رحلة على الورق، وأن قطار لومباردي الأسطوري سترسخ أكثر بفعل التقادم أكثر في ذاكرة الناس، ليست إلا حياة على ورق، حياة يتلاعب بمصيرها أحد القصاصين.