قصة قصيرة بعنوان: حكـــــاية فنجــــان
بقلم: أحـــلام رحــالي…….
أن تعمد إلى دخول مقهًى لاحتساء فنجان قهوةٍ دافئٍ مع أكل قطعة جاتوه فاخرة أو تناول بيتزا مليئة بالجبن مع الكاتشاب؛ فإنَّ ذلك القرار لهو أمر في غاية الصعوبة. أمر تتعارض فيه روح ثلاثينية مرحة حنونة رومانسية مع شخصية عفوية، بريئة، حنونة وساذجة.
استجمعت نفسها أخيرا، وها هي قدماها توجهانها صوب مقهًى في وسط المدينة تفوح في الأرجاء رائحة قهواه الزكية؛ شابة يافعة أشبه بزهرة يانعة، بيضاء ناصعة، بها بعض السمنة المتزنة، قصيرة القامة، ذات ملامح ملائكية، مشاكسة، نشيطة، حركية، لطيفة، رقيقة إلى حد السذاجة.
وقفت على ناصية المقهى في جو نسيمي شديد البرودة يكاد يجفف العروق أو توشك الآذان أن تضمر على إثره، راقها الجو كثيرا فعلا صوت ضحكاتها التي ازدان بها المكان وطربت لها أسماع رواد المكان؛ ضحك من براءة صاحبته تسعد به الأنفس، وتغمض لأجله العيون سباحةً في الآفاق الصافية، لكنها تفاجئ الجميع بسؤالها البريء بلكنة المتندر قائلة: “أين المطر؟”.
تبادر بالجلوس في إحدى زوايا المقهى بعيدا عن الزحام وصيانة لها من رمقات الأعين، كراسٍ جميلة وطاولات صغيرة وأجواء حالمة، العدد الجالس في محيط طاولتها قليل لا يتخطى الأربعة أشخاص؛ وكأن تلك الزاوية المنعزلة خارج المقهى قد خصصت حصرًا للعشاق.
قد سبقها إلى الجلوس في ذلك المكان شخصان يبدو للعيان أن مرتبطان؛ أتراهما زوجين، حبيبين، عاشقين، صديقين…؟! ظلت تفكر في أمرهما دون أن تهتدي إلى جواب. ليس في الأفق ما يوحي ببيان شافٍ أو حكمٍ دقيقٍ.
شرعت في تحليل المعطيات وصولا إلى جواب يريح النفس ويقنع به العقل؛ فكرت قليلا في هيأتهما، حركتهما، سلوكهما، حديثهما الهادئ، مفرداتهما الرسمية، محاسبة كل منهما عن قيمة ما تناوله بشكل وحدوي مستقل، عدم ملاطفة أيٍّ منهما للآخر أو حتى لمسه ثم جزمت وفق كل ما سبق بأنهما محض زملاء بالعمل، ابتسمت قليلا ثم فرحت لتوصلها إلى جواب تلك المعضلة التي شغلت تفكيرها مليا، قدرت ذكاءها وامتدحت عقلها النجيب؛ وهي كذلك بحق.
المكان دافئٌ رغم برودة الطقس، حرارة جهاز التكييف تخرج من أرضية المكان، خلعت عنها ذلك المعطف السميك، جلست على كرسيٍّ مريح بينما وضعت حقيبتها اليدوية على الكرسيِّ المجاور لها كي تنعم بالخصوصية في تلك الأجواء الشاعرية.
وما هي إلا لحظات وإذا بالنادل يتقدم نحوها بلطف شديد قائلا: “أهلا بك سيدتي؛ هل من خدمة أستطيع تقديمها لك؟”. أجابته في رقة وعذوبة قائلة: “أهلا بك، أريد فنجانا من القهوة مع قطعة جاتوه وقارورة مياه باردة من فضلك”. النادل وقد ابتسم لرقتها وبراءتها أجابها قائلا: “في الحال، أمرك سيدتي”؛ الابتسامة تزين محياها وتزيد من وضاءتها وتمعن في بهجتها.
آثرت أن تشغل نفسها بمتابعة الزبائن الموجودين بالمكان من حولها ريثما يحضر النادل طلبها؛ تنقلت عيونها الناعسة بنيَّة الَّلون ما بين حبيبين يتهامسان عشقا ويتناغمان شوقا في الركن المقابل لها وآخرين بدا أنه تربطهما علاقة صداقة فقط ومجموعة من الشباب يتحدثون فيضحكون ويمرحون وهناك في أقصى المكان تجلس امرأة مع ابنها.
لم تشأ أن تلتف الأنظار إليها فتارة تتابع الحضور بالمقهى وأخرى تنتبه للمارة حينا بعد حين؛ فهناك من يتجول في الأنحاء منفردا، وهناك من يتسامر مع خليل أو يمضي في رفقته إلى حيث شاءت به أو بهم الأقدار. تندرت لحالها؛ كيف لا وهي الفريدة المفردة فلا صاحب يؤنسها ولا شريك يجالسها في تلك اللحظة الفارقة.صارت تملأ فراغها بتتبعها لأحوال المجاورين لها والمارة من حولها، لا ينتبه الناس لها بينما هي تنتبه لحالهم جميعا. تفسر وتحلل وتتوقع نهاية كل موقف تجري أحداثه في محيطها، ترسم الصورة وتلون المكونات وترتب العناصر على النحو الذي يروقها.
هي كاتبة مبدعة وروائية متميزة بعد أن تشبعت بالصورة آلت على نفسها إلا أن تنسجها حكاية تروى وتدونها نصا يقرأ؛ فأخرجت من حقيبتها اليدوية كراسة صغيرة وقلما ثم شرعت في بناء معزوفتها الأدبية بين دفتي كراستها الذهبية، رشفة من فنجانها الشجي ترافق تعبيرا نفيسا من لسانها الندي.
نسائم باردة تداعب محياها الطفولي، البسمة الوضاءة يرسمها ذلك الفم الصغير الوردي المصطبغ بحمرة الفراولة الطازجة، الأنف أنف عصفور دقيق لا يكاد يرى في حضور أعين عسلية اللون بنية الملمح براقة كوميض الشهب في صفحة السماء الصافية، وجناتها كحبات خوخ ناضجة، والآذان مزدانة بأقراط ذهبية لامعة.
تتوارد في ذهنها الحالم ذكريات وخواطر وأحلام فتمزجها بما تراه حولها وما تلمسه من مشاعر أو تقتبسه من آثار. فجأة يخيم على عقلها سكون تفيق منه على زفرة شجون “إيمان!!”. صديقة العمر؛ القريبة وجدانا البعيدة مكانا، ذات القوام المتناسق والجسم الرشيق، لطالما أحببتها بشدة حتى وإن بدت مزعجة في بعض الأحيان.
أبواق السيارات، صافرة شرطي المرور، أصوات الباعة ورواد المتاجر، ركض الأطفال، شغب هنا وصراخ هناك، ضحك، بكاء، طرب، غناء، تغريد بلابل، صياح ديكة، امرأة مسنة تمر وحدها بحركة بطيئة تخطف الأبصار وتخلع الأفئدة، همت بالقيام لمساعدتها في عبور الطريق إلا أن شابا أسرع إليها فأمسك يدها وساعدها في عبور الطريق.
يحضر النادل قهوتها مع قطعة الجاتوه وقارورة الماء إلا أنه زودها بقطعتين فقط من السكر وباستحياء طلبت ثلاث قطع أخرى من السكر، ابتسامة ساخرة على وجه النادل قطعت حبل أفكارها وجعلتها تفكر في السر الكامن خلف تلك البسمة المصطنعة تقول في نفسها: “لعله يشير إلى وزني الزائد، لربما ظن أنه بسبب الإفراط في تناول السكر، لا يهم، يعجبني جسمي هكذا ولا آبه لرأي أحد، أنا حلو وأعشق كل ما هو حلو ولذيذ”.
كل في عالمه ومشاغله وأحواله، رائح وغادٍ، متجول ولاهٍ، ترتشف قهوتها وتصول عيناها في الأنحاء وتجول. تذكر أحوالها مع رفيقتها “إيمان”، وتراجع ذكرياتهما معا حيث كانت تتسم صديقتها حينها بالتهور والعبث وربما قد شابها شيء من الغرور، تتنقل بين الأحباب أو المقربين كالنحلة بين الأزهار بحثا عن المال أو حتى الاهتمام، فارقت الحياة بحادث أليم؛ عندها فقط أعلنت توبتها عن الماضي الأليم، ندمت حيث لا ينفع الندم؛ ولات حين مندم!!.
تنهدت قليلا ثم وضعت قلمها وبدأت في تناول الحلوى بشغف كبير، لحظة يمتزج فيها الحبور بالشجون وتتغلف فيه السعادة بالراحة، تضع قطع السكر الخمس في فنجانها دون تحريكها لتنساب جزيئات السكر في السائل على مهلٍ.
أحست لوهلة أن هناك من يراقبها خلسة، تلتفت يمينا على حين غرة فإذا بشاب أنيق يضع هاتفه النقال أمامه ويرتشف قهوته وهو ينظر لها بابتسامة ماكرة، حركت نظارتها للأسفل قليلا لتمعن النظر فيه وإذا به يبتسم لها من جديد دون أن تجيبه هي ولو بابتسامة. ينهض من كرسيه متوجها نحوها، يتلطف معها بالحديث متسائلا إن كان مسموحا له بالجلوس بالقرب منها، يسترسل في الحديث معها عن الطقس والأجواء واليوميات، متجملا في نظمه للمفردات، مبالغا في تحفظه في الوصف، مستعينا بحسن بيانه في التعبير؛ خاصة وأن الابتسامة لا تفارق وجهه.
أعاد السؤال أكثر من مرة؛ وهي هائمة في الملكوت إلى أن استفاقت فجأة من حلمها البعيد وخيالها الجامح لتجيب عن سؤاله. أوشكت على قبول طلبه إلا أن حذاءه المتسخ حال دون ذلك، تمردت شخصيتها المتقلبة هذه المرة ودفعها الغرور إلى العبوس في وجهه وأجابته بنبرة غاضبة حادة: “لالا، لا يمكنك الجلوس، إنما أنتظر زوجي هنا سيأتي عمَّا قريب”. اعتذر منها الشاب ومضى إلى حال سبيله. تقلباتها حقا مؤلمة!!.
لعل وسواسها بالنظافة هو ما دعاها لرفض وجود ذلك الشاب إلى جوارها؛ فهي لا تجلس في مكان حتى تتأكد من نظافته وتعقيمه بنفسها جيدا، ودائما ما تعطر يديها وتعقمهما بين الحين والآخر، لا تسمح لأحد أن يشاطرها الأريكة أو يشاركها نفس السرير أو حتى يستعمل حمامها الخاص، لها خصوصيتها المطلقة فلا أحد يجرؤ على اقتحام عالمها أو حتى يحلم بمشاركتها إياه.
قحكـــــاية فنجــــان بقلم: أحـــلام رحــالينادل ثم قفلت عائدة إلى بيتها تغمرها السعادة، تمضي على أمل في العودة إلى هذا المكان في يوم بارد ممطر كهذا من جديد…
