طهطاويون منسيون: “أنطون زكري”
بقلم دكتور…. السيد إبراهيم أحمد
يعرف العالم العربي بل الإسلامي، وإن شئت بعض أهل الاستشراق مدينة طهطا، ليس لكونها أحد مراكز محافظة سوهاج بصعيد مصر، ولكن لكونها هي محل ميلاد وإقامة رائد النهضة أو اليقظة الحديثة ليس في مصر وحدها بل إن شئت في العالمين العربي والإسلامي، المُعلم والكاتب والشاعر والناثر والصحفي والأديب واللغوي والمترجم ورائد الترجمة المسرحية ومن رواد فكرة القومية أو الوطنية المصرية والمؤرخ الشيخ العلامة رفاعة رافع الطهطاوي.
ذلك الاسم الذي مازال يتردد صداه بين تلاميذ أفكاره عبر الأجيال، وبين دفات الكتب، والدراسات، والمقالات والرسائل الجامعية، والمؤتمرات والندوات التي تقام هنا وهناك، تلك التي تناقش دوره أن سلبًا أو إيجابًا بحسب المعسكر الثقافي الذي ينتمي إليه المتحدث أو الكاتب أو الباحث عن سيرة ومسيرة هذا الرجل الذي صار علامة على موطنه الذي أنجب قبله وبعده الكثير من العلماء والأدباء والأكاديميين، ولم يلمعوا في سماء الشهرة والمجد مثله، مع كون انتهاء اسماء بعضهم بنفس اللقب أو النسبة “الطهطاوي”. ومنهم من سأذكره على سبيل الاستدلال لا الحصر، وإلا طالت القائمة مع ضيق المقام:
ـ الصوفي الشهير وصاحب الألقاب التي يطول حصرها، والجد الأكبر لعائلة الطهطاوي وينسب إليه جميع مشاهير وعلماء هذه العائلة العريقة: “أبو القاسم بن عبد العزيز بن يوسف بن رافع الحسيني الطهطاوي”، وقد أنشأ مسجدًا في طهطا وليس له آثار علمية مكتوبة، وتوفى عام 762ه.
ـ العالم المشهور والفقيه الحنفي “أحمد بن محمد بن إسماعيل الدوقاطي الطهطاوي”، اشتهر بكتابه: “حاشية الدر المختار”، أربع مجلدات في فقه الحنفية، وتوفى 1231ه.
. الأديب الشاعر الفقيه “أحمد بن عبد الرحيم بن مسعود بن أبي السعود القلتي الشافعي، الطهطاوي”، كان والده مفتي السادة الشافعية، ونائب الأحكام الشرعية بطهطا، ومن الذين التحقوا بمدرسة الألسن، من آثاره ومؤلفاته: الأسئلة النحوية المفيدة والأجوبة العربية السعيدة في النحو، نظم المقصود في الصرف، النقطة الذهبية في علم العربية. ولد 1233ه، وتوفى 1302ه.
ـ الحافظ الفقيه أحمد حجازي بن عبدالله بن محمود بن أبي تليح عبدالعال الطهطاوي المولد، والحجازي الأصل، والمولود في مدينة طهطا في عام 1303هـ، وهو شيخ القراء بمكة المكرمة في العهد السعودي، ألف رسالة سماها: “القول السديد في أحكام التجويد” التي تم ترجمتها إلى اللغة الملايوية والبنغالية. استمر الشيخ الفقيه متوليًا لمشيخة القراء ورئاسة الفقهاء بمكة المكرمة نحو ثمان وعشرون سنة حتى وافاه الأجل في الخامس من شهر رجب عام 1381هـ، وشيع من داره الكائنة بحي أجياد بمكة ودفن بمقابر المعلاة.
ـ الشيخ “محمد رافع بن عبد العزيز القاسمي الحسيني الطهطاوي الأزهري”، العالم الأزهري، حنفي المذهب، له إسهامات في التفسير والفقه والحديث، ومن آثاره: “كمال العناية بتوجيه ما في ليس كمثله شئٌ من الكناية”، ولد 1249ه وتوفى 1336ه بطهطا، وهو والد الشيخ العلامة أحمد رافع.
ـ الشيخ “أحمد رافع الحسيني القاسمي المصري الطهطاوي الحنفي”، ابن العلامة السيد محمد رافع ابن المرحوم السيد عبد العزيز رافع، وواحد من كبار علماء المذهب الحنفي في عصره، كان يوصف بأنه “مسند عصره” عن جدارة، وكان صاحب اهتمامات أدبية وفلسفية، وقد أنشأ ببلدة «طهطا» في سنة ١٨٩٨م مدرسة خيرية إسلامية، سماها “مدرسة فيض المنعم” تخرج منها كثير من التلاميذ الذين حازوا بعد ذلك الشهادات العالية، ومكث ينفق عليها نحو أربع عشرة سنة، ثم قدمها إلى مديرية جرجا في سنة ١٩١٢م لإدارتها بمعرفتها، من كتبه: (رفع الغواشي عن معضلات المطول والحواشي”، و”الثغر الباسم في مناقب جدي الطهطاوي أبي القاسم”، و”القول الايجابي في ترجمة شمس الدين الأنبابي”، توفي عام 1936م.
. السيد الشريف محمود رفاعة عنبر الطهطاوى الحنفى، الأزهري، أنشا أول معهد أزهري في صعيد مصر بعد معهد أسيوط عام 1914م بمدينة طهطا من ماله الخاص، كما قام بتأليف كتاب “التحفة العنبرية فى معرفة الأحكام القرآنية” وطبعه على نفقته الخاصة عام1931م، والكتاب مقرر على طلاب معاهد القراءات بالأزهر الشريف، ومن آثاره أيضا: “الكشكول العنبري في سوانح الأفكار وحقائق الأخبار”، توفي الشيخ عنبر عام 1961م .
وقد يسترعي انتباه البعض وجود اسم “رافع” مع تراجم بعض من ذكرناهم، وذلك لأن: محمد رافع، وأحمد رافع، ورفاعة رافع، كلها أسماء مركبة تركيبًا إضافيًا، وهو أمر اختص به رجال العائلة الطهطاوية. وغير هذه الأسماء ممن لا ينتهي نسبهم إلى بلدهم “طهطا” الكثير ممن نعرفهم لذواتهم ومؤلفاتهم دون معرفة أن “طهطا” محل ميلادهم.
ويبقى السؤال:
فلمَّ كان تركيز المقال على المؤرخ أنطون زريق أو أنطون بن أنسطاس أنطون زكري (1900 – 1950م) خاصة؟! وتكمن الإجابة في أنه على الرغم من كون زكري مسيحي الديانة، كاثوليكي المذهب! إلا أنه فرع رائع متفرد تدلى من شجرة العلامة رفاعة رافع الطهطاوي الذهبية المتنوعة؛ فهو يشبهه في موسوعيته، وتنوعه المعرفي، وشغله بعض وظائفه، خاصة الترجمة، واهتمام أنطون يرقى لاهتمام الطهطاوي بأمور وطنه، وانشغاله بقضاياه، حتى غمس قلمه في محبرة البحث عن الحلول مع الصفوة من المتخصصين والمهتمين بأي فرع من فروع العلم الذي يتعرض لمشكلة برزت على الساحة، وتؤثر تأثيرا بليغا في بني وطنه، وتماسكهم المجتمعي، وهو ما يبدو واضحًا في مؤلفاته.
من المهم تعريف القراء بمعلومات حول المتعدد المواهب “أنطون زكري” الذي ذكرتْه بعض صفحات من: كتاب: “أعلام علماء مصر”: نبيل أبو القاسم، مكتبة المشارق، القاهرة،2018، و”معجم المطبوعات العربية والمعربة”: يوسف بن إليان بن موسى سركيس، 1928، مطبعة سركيس مصر، وكتاب: “الأعلام”: خير الدين الزركلي، 2002، دار العلم للملايين، بيروت. وكتاب: “معجم أعلام العرب المسيحيين في العصور الإسلامية”: حسن البطوش، علاء الرشق، مروان حمدان، المعهد الملكي للدراسات الدينية، عمان، 2004م. ومؤسسة هنداوي للعلم والثقافة، القاهرة، وندزر، بيركشاير.
ولد عالم اللغات، والأثري، والمؤرخ، والمترجم “أنطون زكري” عام 1900م في مدينة “طهطا” بمحافظة سوهاج المصرية لأسرة من الأقباط الكاثوليك، وقد شغف بالآثار القديمة منذ صغره فانكب على دراسة التاريخ واللغات القديمة كالقبطية والمصرية القديمة والعبرية، وقد عمل أمينًا لمكتبة المتحف المصري الأمر الذي مكنَه من الاطلاع على الكثير من الكتب والمراجع الهامة في “المصريات”، وقد أشبع قربه المستمر من الآثار، بحكم طبيعة عمله، وشغفه الشديد بالتاريخ الفرعوني، فألف العديد من الكتب الهامة في هذا المجال. وقد توفي زكري قتيلاً في حادث اصطدام سيارة مروع عام 1950م.
كان زكري ينشر مقالاته بمجلتي المقتطف والمنار، ومنها ثلاث مقالات بالمقتطف، وهي: “ذكرى شامبليون”، أغسطس 1922، و”توت عنخ أمون”، يناير1923، و”اللغة المصرية القديمة”، أغسطس 1924، ومقالة واحدة بالمنار تحت عنوان: “أقدم كتاب في العالم أثر مصري منذ 5500 سنة”، مارس 1923. وهي المقالات التي حوتها كتبه التي من تأليفه أو ترجمته.
أمَّا الكتب التي من تأليف زكري، فهي: “النيل في عهد الفراعنة” و”مفتاح اللغة المصرية القديمة ومبادئ اللغتين القبطية والعبرية” صدر في عام 1924م، و”الأدب والدين عند المصريين القدماء”. والكتب التي تولى تعريبها أو ترجمتها، فهي: ” الحكومة الاشتراكية منذ 3500 سنة مصر الاقتصادية فى عهد الأسرة 18 الفرعونية”، و”الدليل العصري للمتحف المصري”، و”الطب والتحنيـط في عهد الفراعنة”.
وكان قد أعلن زكري عن قرب صدور كتابه: “تاريخ مصر القديم لهيرودوت في القرن الخامس ق.م”، بعد أن ترجمه، ونمق حواشيه، وانتقى صوره، وجاء الإعلان في الصفحة السادسة من كتاب: “الحكومة
الاشتراكية منذ 3500 سنة مصر الاقتصادية فى عهد الأسرة 18 الفرعونية” الذي انتهى المؤلف من تأليفه في 1935م، إلا أن كتاب هيرودوت المذكور لم يصدر بترجمة أنطون ذكري، ولكن بترجمة وتحقيق دكتور وهيب كامل المدرس في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، تحت عنوان: “هيرودوت في مصر: القرن الخامس قبل الميلاد”، وقد نقله وهيب عن اليونانية، وصدر في الأول من يونية عام 1946م، عن دار المعارف بمصر، ولم أعثر على كتاب زكري الذي لم يصدر غالبًا.
اعتاد انطون زكري ذكر الأسباب التي دفعته لتأليف أو ترجمة الكتاب الذي يقدمه للقراء، وذلك مثلما فعل حين ترجم كتاب: “الدليل العصري للمتحف المصري” عن الفرنسية لمؤلفه العالم الفرنسي الأثري “جورج دارسي”، السكرتير العام لمصلحة الآثار المصرية، عام 1921م:
وقد وجه زكري كلمة للزائر الكريم: (لا يحصل الزائر على فائدة حقيقية إذا دخل المتحف ولم يقع بصره فيه إلا على هياكل صامتة
قائمة، وقد يقع في نفسه لأول وهلة أن أربابها قوم اتسعت لهم أوقاتهم فشغلوها بدمية هذبوها وصخرة تحتويها، وهكذا يغيب عن ذهنه السر الحقيقي الذي بعثهم على تكبد المشاق في استبقاء آثارهم والاحتفاظ بجلائل أعمالهم. لذلك كله شعرنا بحاجته إلى مفتاح يفتح له المغلق منها، ودليل يقوده إلى حقيقة الواقع).
وحين ترجم زكري كتاب: “الحكومة الاشتراكية منذ 3500 سنة مصر الاقتصادية فى عهد الأسرة 18 الفرعونية” عام 1935م، وكعادته يوجه كلمة لحضرات القراء، يقدم فيه تعريفا بالكاتب والكتاب، ودافعية ترجمته ونشره، فيقول: (أتقدم بهذا الكتاب أثرًا تاريخيا تأليف الأستاذ القدير “سرج ديرين”،
دكتور بالحقوق، وخريج مدرسة العلوم الاقتصادية، ومدرسة اللوفر. وهو فريد في نوعه؛ لِتضَمُّنهِ حقائق لم تأتِ بها المؤلفات الأخرى عن تواريخ مصر القديمة، وفي مباحثه إيضاح كاف لتطور الهيئات الحكومية في تلك العصور؛ لأن العدل ونشر المساواة كانا وجهة الجميع، مهما تنوعت الأدوار الثمينة للأدوار الحكومية).
وإذا لم يخص زكري القراء بفقرة خاصة في الصفحات الأولى من كتبه أحيانا، يأتي بها ضمن مقدماته الرائعة لغويا، وفكرا، وعمقا، وتخصصا، إلى الحد الذي تنسى ديانته أو مذهبه وتتذكر فقط “طهطاويته” وأنه تربى في كتاتيب بلدته، وتسربت الثقافة الإسلامية في تضاعيف جمله المتماسكة، والتي يدرك القارئ من خلالها مدى تمكنه من ناصية الفروق الفردية، والمترادفات اللفظية، ويشترك على الرغم منه مع ابن مدينته الرائد
العلامة الإمام رفاعة رافع الطهطاوي، في حب الوطن، والخوف على مواطنيه، وحقوقهم، وحرصه على أن ينفعهم في ترجماته بالمفيد، والتزامه بحياد العلماء، وتصويب الأخطاء التاريخية التي تعرض لها عند تصحيحه لما شاع عن عروس النيل البشرية التي يقدمها المصريون للنيل لكي يجري.
ويقدم من خلال كتابه “الأدب والدين عند قدماء المصريين” مقدمة تحس فيها بأنه شيخ معمم حيث بدأها بالبسملة واستهلالٍ كاستهلال الأزهريين، مما يؤكد تأثره ببيئته الأولى في “طهطا” واحترامه للدين في المطلق، واعتزازه بانتسابه لحضارة تعتز بالشرف وقيمه المستقرة في نفوس مواطنيه، وأن الانحلال أتى مع الدخلاء من الأجانب الذين قننوا الدعارة والعهر في البلاد، وشارك من خلال كتابه: ” تحريم البغاء عند قدماء
المصريين” في حض الحكومة على إلغائه، وذلك بعد أن أرسلت له الحكومة المصرية من خلال تأليف لجنة مهمتها إلغاء البغاء وعدم اتخاذه مهنة بين الرعاع والأسافل، مطبوعًا تستطلع فيه رأيه: (ولكوني ممن شملهم حسن الحظ بوصول بطاقة من هذا المطبوع إليَّ، ولاتصالي بمعلومات تاريخية، عما يتعلق بهذا المبحث وأمثاله في عصور الفراعنة… فقد دفعني الواجب الوطني لأن أكون في جملة من قاموا بقسطهم في هذه الخدمة الوطنية).
ولأن ما قدمه الرجل خلال نصف قرن هي كل عمره على الأرض، من علمٍ مفيدٍ وباذخ، ونافع، مما جعل عجلات المطابع ودور النشر تسعى سعيا إلى كتبه تعيد تقديمها لأهل التخصص وممن يهتمون بما كتب، خاصة وأن العديد من الكتب والدراسات الأكاديمية
بطول الوطن العربي تنتفع بها كمراجع تقف فيصلا للاستشهاد بها خاصةً في مجال اللغة القبطية، وهو ما يعني أنه على الرغم من وفاته مازال حاضرًا في المشهد العلمي بكافة تنوعاته، شأنه في هذا شأن أعلام طهطا في كافة المجالات حين انطلقوا من مدينتهم ونقلوا العلوم والمعارف للدنيا وهذه خصيصة من أعظم خصائصهم: حب العلم، ونشره، ونفع المجتمع، وحب الوطن، والحرص على سلامته، وتقدمه.
وحسبي أني تناولتُ ولو طرفًا من سيرة العالم اللغوي الشهير، والمترجم، والأثري، والمؤرخ، والبليغ “أنطون زكري” الطهطاوي، حين أسقط اسمه صاحب كتاب:”مائة شخصية قبطية على أرض مصر”، مع انطباق كافة الشروط المعلنة عليه تماما، إلا أنه ليس أرثوذكسيًا، ولكنه مصري، قبطي، وتألمتُ للغاية حين لم أجد اسمه بين علماء اللغة القبطية أو علماء القبطيات المتنوعة بحسب التقسيم الموضوعي للشخصيات كما وضعه الكاتب، لعله يتدارك ذلك في طبعات قادمة؛ فالرجل يستحق بحق أن نبعث سيرته، وننوه عن مؤلفاته وجهده البارز في مؤلفاته ومتر
جماته التي اعتنى بها، وقضى فيها عمرًا من وقته.