بقلم : رؤوف جندي
على رجع ذكرياتٍ حالماتٍ يتمايل معها قلبى كلما مالت . وعلى سفح مخيلتى وفوق هضابها . راحت تنساب حوائى برفق فوق منحنيات العمر وطيات السنين . كسحاباتٍ رقيقاتٍ ملائكية الطالع . يغازلن خيوطاً فضية اللون انسكبت من عين القمر . تتلاشى هذه السحابات رويداً رويداً داخل صدرى كلما تعامد القمر فوق رأسى واستقرت صورتها فى سماء الخيال . تتراقص تلك السحابات رقصاتٍ شقيةً شهيةً وقد تحزمن بأحزمةٍ فضيةٍ إقتطفتها من ضفائر النجوم . تعلو وتهبط أدراج نفسى وزهرات خلجاتى . كفراشاتٍ بيض خارجات لتوها من مخدعها الحريرى . تدور كل حينٍ فى أروقة بستانى . تعانق الذكريات الجميلة وتمسح الحزن عن المآقى . تضرب بجناحيها فتهيل كحلها الأبيض على عيونٍ الدنيا . فتلامس برفقٍ وردات العمر ورحيق الأيام . وتنشر النضارة والأمل . وتداعب فى دلالٍ وجمال أطناب فكرى . وتختال فى زهوٍ وخُيلاء بين بارقاتِ أحلامى ..
وعلى ضفاف نهرى وفوق صفحة ماءِه الرقراقة . جائتنى سابحةً هائمةً . تطفو فوق موجات الأمل . تكتمل حسناءً سويةً كلما هدأ الماء . وتتراقص معربدةً متلاشيةً كلما دغدغتها الأمواج فى ضوء الأصيل . بعد أن أفرغت شمسُ المساء ذهبَها فوق لُجة الماء . طارت صورتها ترفُل فى ثوب الأنوثة وترفرف بأجنحة الرقة . كعصفورٍ يتقافز فرحاً بين الأغصان . متخفياً بين أوراقها . تسابقها جوارحها فى خفةٍ ودلال كأطفالٍ خرجوا عن طوع الأم . تشدو بأعذب ترانيم الوفاء ووتراتيل الاخلاص . تشاغلنى فألاحقها . أراها تدنو منى فتتدلى على صدرى . باتت منى قاب قوسين أو أدنى . هممت أن أقبض عليها . ولكن قد غشَّى البصرُ من نورها ما غشَّى . عرجت الى سدرة إحساسى وإلى حيث لا أدركها . وكأنها إحدى ساكنات السحاب .
صِرتُ أراها عند أطراف وسادتى . تُراقص عينى وقلبى . تنقر فى دلالٍ شقى أسطح أثاثاتى . نقر أصابع الأمل على دفوف الرجاء . تحط كل حينٍ فوق أغصانى . تضرب بجناحين كأوراق الورد . تُهدهد بحفيفها روعات قلبى الذى تاق لرؤيتها حقيقةً لا خيالاً . هى فى سقف غرفتى . على حوائطها . عند حافة نافذتى . فوق مائدتى . على أطراف أدواتى وفى قيعان أطباقى . فى قرص الشمس . فى دارة القمر . فى نسمةٍ عليلة.. على مسرح قلبى . عند مدخل شريانى ….
انتهت كل صورها الى قلبى . تلاشت كل أطيافها داخلى . ذابت كل خيالاتها فى جسدى . تسلَلَت إلى أعماقى . تراودنى من كل حدبٍ وصوب . رأيتها . سمعتها . تشممتها . تذوقتها . تحسستها . إنصهرَت بين أوصالى . سالت فى شرايينى . يموج فى داخلى شئٌ خفى . اعتَلَت جسدى بثورٌ حمرٌ كوردات الربيع . نهضت إلى فرشاتى وألوانى . بدأت أُفرغها على لوحتى البيضاء . أغمس فرشاتى فى كفى وأرسم . تتقاطر ملامحها من بين أصابعى . بدأت أرسمها وفقاً لما يمليه الخيال ويأمرنى الهوى … رسمت الوجه بدراً وبعضاً من خصلات شعرها الأسود ..
بدأت ملامح الوجه تكتمل . تبين لى وجهها الأبيض من شعرها الأسود من فجر الدلال والجمال . قرص الشمس . دارة القمر . عينان نضاختان بالأمل كمرافئ الشاردين . شعر كخيوطٍ الليل . تراجعت للخلف قليلاً . أدقق النظر وأتحقق من صدق فرشاتى . لمعت العينان ففزِعت . إقتربتُ من الصورة قليلاً . فإذا بصدرها يعلو ويهبط . إضطرَبت وطَرِبت . عدت للخلف . فتَحْت نافذتى على مصراعيها . إجتاح غرفتى نسيمٌ عليل . تطاير معه شعرها مسافراً فى أرجاء مرسمى ودنياي . أغلقت النافذة فاستقرت بعضُ خصلاتها فوق حواف اللوحة . أومأَتْ بجفنيها تنادينى . فاقتربت منها . أشارت إلى وجهها على بعض ألوانٍ ورتوشٍ مازالت عالقةً عليه . أخرجتُ منديلى فمسحتها . وحررت خصلات شعرها . عانقتنى وعانقتُها . إستنَدَت على كتفى بيمينها . وبشمالها كشَفَت قليلاً عن ساقيها . همت تخطو خارج اللوحة . قلت : ادخلى الصرح . فدخلت تخطو أولى خطواتها فى بهو عمرى . سرنا معا متأبطين نرفل فى زى الزفاف الى مسرح قلبى وعُرس وجدانى . تسآئلنى ألوانى وفرشاتى من هذه ؟ قلت :