جبل العلم
حوار غادة سيد
حوار مع الأستاذ الدكتور بهاء حسب الله:
في زمن يتسم بالأنانية، تسوده الأحداث المتوترة وتغلب المصلحة على علاقاته الإنسانية التي لم تعد إنسانية، ويتوسد الأمر أنصاف الرجال ويتحدث الرويبضة في شأن العامة، وتصبح المروءة و الشهامة محل نظر، والبذل والعطاء مصدر للتهكم والتندر.
في نفس الوقت تجد فئة نأت بنفسها عن الصراعات الوهمية التي يختلقها من تفرع في الطرقات وتفرغ من معاني التواضع و الإيثار؛ فئة آلت على نفسها أن تتمسك بالقيم المفقودة والخصال المحمودة. حتى أنك تشعر أنك عدت بالزمن إلى وقت أن كان الأستاذ قدوة وسيرته عطرة.
هذه الفئة لها رجال يحملوا رايتها غير مبالين بحماقات أعيت أصحابها، لكنها لا تؤثر في تلك الجبال الشامخات الراسيات.
اليوم معنا عَلما رفعه تواضعه وحلق به عطاؤه حتى طال السحاب، فكان جبلا في شموخه ورسوخه ونفائسه وتثبيته لدعائم الثقافة، وبدرا أضاء سماء الأدب بنور علمه وأخلاقه.
معنا الأستاذ الدكتور الكبير بهاء حسب الله.
• كل عام وأنتم بخير ويسعدنا أن نتعرف على سيادتكم عن قرب؛ لنقف على محطات هامة في مسيرتكم، ومن هم وأبطالها؟
• إسمي بهاء عبد الفتاح حسب الله أستاذ في كلية الآداب جامعة حلوان وإبن الإسكندرية. اشرف أني إبن جامعة الإسكندرية في الأصل ولكن جاء تعييني في القاهرة.
ولدت في الإسكندرية بحي الإبراهيمية وهي مدينة الاستقرار.
عائلتي الصغيرة مكونة من زوجتي مدام أميرة إبراهيم وهي معلمة لغة عربية وخريجة كلية الاداب جامعة الاسكندرية، وبناتي دينا بهاء خريجة كلية رياض الأطفال متزوجة ولديها ولد جميل وهو حفيدي الأول ، وابنتي الصغرى لينا بهاء طالبة بكلية الحاسبات والمعلومات بالأكاديمية العربية للعلوم و التكنولوجيا.
أما الأسرة الكبيرة…الوالد عالم من علماء الأزهر الشريف وأستاذ للغة العربية، ووالدتي تقبلها الله برحمته هي الحاجة سميرة اللقاني؛ كانت مدرسة لغة فرنسية، ومنذ أن أنجبتنا أنا وأخي قد تفرغت لنا تماما وتركت العمل بالتدريس بعد أن قضت به عشر سنوات.
إلتحقت في طفولتي بمدرسة صلاح سالم الإبتدائية في الإبراهيمية ثم سافرت مع والدي حيث ابتُعث إلى دولة الصومال مدرسا في لجنة الأزهر، فأكملت المرحلة الإبتدائية كلها في مقديشيو بالصومال.
كانت فترة جديدة على حياتنا وغريبة، لكن ميزها أننا تعرفنا على حضارات إفريقيا وطباع الصوماليين، وهم عرب ومسلمون مثلنا ولهم لهجة خاصة هي اللهجة السواحلية.
وفي المرحلة الإعدادية بعدما عدنا من الصومال أنا وأخي التوأم الأستاذ علاء حسب الله وهو رجل إقتصاد وكاتب بجريدة الأهرام وفي بعض الصحف العربية؛ إلتحقت بمدرسة عبد الله النديم الإعدادية بنين وهي مدرسة المتفوقين وحصلت منها على الشهادة الإعدادية ومنها إلى مدرسة مصطفى كامل الثانوية وكانت وقتها مصطفى كامل الثانوية العسكرية، والحمد لله تفوقنا في المرحلة الثانوية، واخترت أن ألتحق بكلية الآداب رغم أني كنت السادس على الإسكندرية في الثانوية العامة وذلك لحبي الكبير للغة العربية.
• حياتكم الأكاديمية كيف تراها؟ وهل لكم أن تطلعنا على بعض الرسائل الطريفةالتي أشرفتم عليها؟
• أكملت دراستي حتى حصلت على درجة الماجستير من جامعة الإسكندرية مع الأستاذ الدكتور محمد زكريا عناني؛ عن شاعر شدني لقب شهرته وهو الشاب الظريف؛ أو شمس الدين التلمساني، وهو من الشعراء الوافدين إلى مصر. وجدت إسمه في شارع من شوارع محرم بك وتقصيت أحواله وحصلت على ديوانه من أستاذي محمد زكريا عناني. ثم أكملت الدكتوراة في جامعة الإسكندرية جامعتي الأم رغم عملي في جامعة حلوان وحصلت على الدكتوراة أيضا مع الأستاذ الدكتور محمد زكريا عناني شفاة الله عن شعر الطبيعة في مصر في الفترة الفاطمية والأيوبية. فترة الأدب الوسيط.
وبعدها عينت مدرسا بجامعة حلوان، و تخصصي كان الأدب العربي القديم والوسيط.
كنت كثير السفر خارج مصر بعد الماجستير حيث سافرت إلى جامعة الشيخ زايد بالإمارات، وبعد الدكتوراة سافرت إلى جامعة الملك خالد بالسعودية وعملت بها كأستاذ للأدب العربي القديم.
ثم عدت إلى مصر في ٢٠١٠ وحصلت على درجة الأستاذ المساعد في الأدب العربي القديم، وأشرفت على عشرات الرسائل.. من أهمها رسالة ظريفة جدا إسمها شعراء الحرف في الدولتين الفاطمية والأيوبية وهي الفترة التي أهتم بها.. وجدت أن شعراء كثيرين من تلك الفترة كانوا يعملون في الحرف والصناعات البسيطة كالنجارة والحدادة والجزارة وتصليح الساعات وأعمال النظافة مثل ظافر الحداد وأبو الحسين الجزار وإبن الساعاتي ونصير الدين الحمامي والوراق؛ كانوا حرفيين لكن نبغوا في الشعر. وهي رسالة أعتز بها لإبنتي تغريد نبيل، وهي الآن مدرس مساعد وعلى وشك الحصول على درجة الدكتوراة.
وأيضا أشرفت على رسالة لإبنتي إسراء عاطف بعنوان
المديح السياسي في أدب القرن السادس وهي تكشف عن الخط السياسي للمديح في تلك الفترة.
كذلك رسالة عن بنية السرد في أدب دكتورة بنت الشاطئ؛ كيف كانت تكتب كتبها في السيرة، وكيف كانت تكتب السيرة بلغة الدراما والقصة.
• الدور الريادي الذي تقوم به سيادتكم في المحافل الأدبية و أهم رحلاتك وإسهاماتك بها..
• لي دور أحرص عليه بجوار التدريس في الجامعة من حضور المؤتمرات داخل مصر وخارجها ولي رحلات عديدة آخرها دولة الكويت تخص أدبنا العربي؛ القديم والمعاصر.
و سافرت إلى تركيا وأعطيت محاضرات في الجامعة الإسلامية هناك، وكذلك شرق آسيا في تايلاند. إلى جانب السعودية وسلطنة عمان.
وأشارك في أنشطة وزارة الثقافة داخل مصر في الإسكندرية والقاهرة مع أستاذ رشاد بلال وأستاذ جابر بسيوني وأستاذ أحمد فضل شبلول وكل الاساتذة الاحباء.
أيضا لي رحلة موازية بجانب التدريس في الجامعة هي رحلتي في الصحافة، وقد بدأتها وأنا طفل صغير في مجلات الأطفال ثم في صحيفة الأخبار ثم في مجلة أكتوبر و صحيفة الأهرام.
• شخصيات أثرت بسيادتكم في مراحل العمر المختلفة..
• في النطاق العلمي تأثرت بالدكتور محمد زكريا عناني الذي تتلمزت عليه في مراحل الليسانس والماجيستير والدكتوراه، وقد تبناني علميا، وهو من إقترح علي موضوع رسالة الماجيستير ودعمني بالكتب والمصادر والمؤلفات.
ومن أكثر من وقف إلى جواري في رحلتي الصحفية؛ المرحوم الأستاذ سلطان محمود.
كنت طالبا في السنة الثانية في الجامعة وأكتب للأخبار والأهرام فدعاني إلى مكتبه وقال لي أننا بصدد إخراج جريدة للإسكندرية اسمها صوت الإسكندرية وأتمنى أن تكون معنا. وعينني في هذه الجريدة براتب شهري، وأصبحت من أبرز كتابها، ومن أبرز المحققين فيها، فقد كنت أحقق موضوعات تخص الشارع السكندري، وأكتب في الثقافة والأدب وأنا طالب بالجامعة.
• أحداث هامة محفورة في الذاكرة لايمكن أن تنساها..
• هناك أحداث لها قيمتها الكبيرة جدا التي أثرت بي.. أسفاري المتعددة وما بها من معارف وملتقيات، فالانسان يستفيد من السفر إستفادات كثيرة خاصة أني سافرت إلى قلب افريقيا؛ إلى الصومال كما أخبرتكم ٤ سنوات من عمري في مرحلة التكوين رأيت خلالها عادات القبائل المسلمة وتعلمت لهجاتهم ودرست في مدارسهم، فرأيت حضارة غير الحضارة المصرية.
أيضا سفرياتي إلى السعودية والكويت وسلطنة عمان وتركيا وتايلاند؛ رأيت حضارات وثقافات وأحداث أخرى إستفدت منها كثيرا.
هذا إلى جانب أحداث ثورة ١١ يناير على المستوى العام.
ومن أهم الأحداث التي لا أنساها؛ التكريمات من وزارة التربية والتعليم ومن الجامعة، فقد كنت من المتفوقين في المراحل الثانوية والجامعية.
• حكمة تؤمن بها سيادتكم ولا تتخلى عنها مهما كانت الظروف.. وماهي رسالتكم في الحياة؟
• الحكمة التي أؤمن بها حقيقة وأنا في هذا السن هي نفس رسالتي في الحياة.
• اقول إن الانسان عليه أن يعمل من المهد الى اللحد، فلم أقتصر على عملي بالجامعة فقط لكن أشارك أيضا في الندوات.
فعندي شيء من العلم؛ لماذ لا أخرجه إلى الملتقيات العامة والندوات والمؤتمرات والمحاضرات الخارجية؟
ايضا مشاركتنا في انشطة الثقافة المختلفة في مصر وخارجها، فنحن نستشعر أننا نحمل رسالة العلم، والتي لابد أن تتجاوز أسوار الجامعة والمدارس لتصل إلى الملتقيات العامة، وهذا يُحدث لاشك زخما رائعا في نشر الثقافة ونشر الأدب وتحليله، ونشر الوعي بصفة عامة؛ سواء لمستوى الطلاب أو خارج مستوى الطلاب، فهذه رسالتي وحكمتي.
• شخصية تمنيت أن تكون فترة وجودها بحياتك أطول..
• من الشخصيات العظيمة التي كانت في الإسكندرية؛ دكتور محمد مصطفى غدارة ودكتور محمد زكي العشماوي -الأعلام الكبار أساتذة الأدب في الإسكندرية- كنت أتمنى بقاءهم معنا عليهم رحمة الله. كذلك أستاذي في الصحافة، أستاذ سلطان محمود.
وأسال الله الشفاء لأستاذي محمد زكريا عناني لإخلاصه معي في رحلتي العلمية ووقوفه إلى جواري. جميعهم شخصيات تركت بصمتها على رحلتي العلمية والصحفية.
• شخصية ترغب أن ترسل لها برقية.. وما فحواها؟
• أرسل برقية لوزيرة الثقافة دكتورة نيفين الكيلاني، بمزيد من الاهتمام بتوسعة النشاط الثقافي والأدبي في قصور الثقافة على مستوى الجمهورية كلها، وعودة الروح إلى المؤتمرات والسهرات الأدبية. لأننا مثلا في الإسكندرية نستشعر أن هناك جهد كبير مبذول، لكن يحتاج إلى إهتمام إعلامي من الوزارة لإلقاء الضوء عليه.
• ذكريات سيادتكم عن شهر رمضان وما الذي افتقدناه اليوم منها؟
• أنا من الجيل الذي كان يسعد بالفانوس النحاس البسيط الذي يضاء بالشمعة، وكنا ننزل إلى الشارع بعد مدفع رمضان ونلعب بالفوانيس ونزين الشوارع بأنفسنا.. تعلقنا بثقافة رمضان وفن رمضان والحياة الرمضانية البسيطة في فترة السبعينيات والثمانينيات.
كماعشنا الفطرة في السعادة بشهر رمضان المعظم حيث الملتقيات العائلية، وكانت العائلات من الجيران تعرف بعضها في البيوت وتتزاور ويتناولون الطعام سويا وتهادي بعضها بالحلوى. كانت الحياة أسهل كثيرا من الآن. لقد عشنا الجيل الجميل الذي نتمنى أن يتكرر.
بالنسبة لصلاة القيام في المساجد، كنت في الابراهيمية مرتبطا بمسجد المواساة والداعية الإسلامي الشيخ ياسين رشدي؛ أصلي خلفه صلاة القيام وأسمع الدروس، فهو أيضا من الذين أسهموا في تشكيل حياتي الثقافية والدينية.
• نشكر سيادتكم على هذا اللقاء الذي أعطيتنا فيه كثيرا من وقتكم الغالي لنتعرف على أهم المحطات في مشواركم الزاخر بكل هذا العطاء.
دمتم لنا منارة ودليلا في دروب الثقافة والأدب.. ولكم جزيل الشكر الأستاذ الدكتور الكبير بهاء حسب الله.