مشاهدات: 119
بِمَ آذنَ موته – ﷺ- ؟
بقلم : د. عمران صبره الجازوي
إنَّ موتَ رسولِ اللهِ – ﷺ – ليسَ كموتِ أحدٍ من البشرِ ، وإذا كانَ موتُ العالمِ من أمته ثُلْمَةً ( أي خسارةً لا تُعوّضُ ، أو فراغاً لا يُملأ ) في الإسلامِ لا تُسدُّ ، فكيف بموتِ نبيهم – ﷺ – ومورثهم ؟
لذا لم يمرُّ يومٌ على البشريةِ أسوأَ من يومِ موته – ﷺ – ، وهذا ما عبّرَ عنه أنسُ بنُ مالكٍ – رضي اللهُ عنه – بقوله :” ما رأيتُ يوماً قطُّ كانَ أحسنَ ، ولا أضوأَ من يومٍ دخلَ علينا فيه رسولُ اللهِ ، وما رأيتُ يوماً كانَ أقبحَ ، ولا أظلمَ من يومٍ ماتَ فيه رسولُ اللهِ ” رواه أحمدُ والدارمي .
حقاً لقد كانَ موته – ﷺ – نقطةَ تحوّلٍ في تاريخِ البشريةِ إذ رحلَ حاديها وقائدها والمُكلَّفُ بردِّ شاردها وآبقها إلى الحظيرةِ الإلهيةِ ، وكانَ موته – ﷺ – إيذاناً – أي إعلاماً – بما يلي :
1- انقطاعِ الوحي ، إذ كانَ – ﷺ – آخرَ أُذنٍ استقبلتْ وحي السماءِ في الأرضِ . قالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: انْطَلِقْ بنَا إلى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا، كما كانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَزُورُهَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إلَيْهَا بَكَتْ، فَقالَا لَهَا: ما يُبْكِيكِ؟ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ؟
فَقالَتْ: ما أَبْكِي أَنْ لا أَكُونَ أَعْلَمُ أنَّ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ أَبْكِي أنَّ الوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَيَّجَتْهُما علَى البُكَاءِ. فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ معهَا ” رواه مسلمٌ .
2- اكتمالِ الدينِ ، وثبوتِ التشريعِ ، وتوقفِ النسخِ ، إذ لم يلتحقْ – ﷺ – بالرفيقِ الأعلى إلا بعدَ أن أكملَ اللهُ على يديهِ الدينَ ، وأتمَّ به النعمةَ . قال تعالى :
{ اليومَ أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلامَ ديناً } سورة المائدة آية –3 ، وعليه فديننا كاملٌ ، وكلُّ ما أُحدثَ فيه بعد موته – ﷺ – بدعةٌ لا أصلَ لها ، فعلينا الاتّباعُ لا الابتداعُ .
قال عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ – رضي اللهُ عنه – :
” اتّبعوا ولا تبتدعوا فقدْ كُفيتم ” رواه الدارمي في سننه .
3- خبوتِ جذوةِ الإيمانِ في نفوسِ معتنقيه ، وبرودِ حرارته في قلوبهم ؛ لذا كانتْ الأمةُ في حاجةٍ مستمرةٍ إلى من يجدّدُ لها أمرَ دينها ،
فكانَ التفضّلُ الإلهيُّ المُشارُ إليه بقوله – ﷺ – :
” إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا ” رواه أبو داود .
ومعنى التجديد : إحياءُ ما اندرس من العملِ بالكتابِ والسنةِ ، والأمرِ بمقتضاهما, فالمجدّدُ يبيّنُ السنةَ من البدعةِ , ويكثرُ العلمَ , وينصرُ أهله, ويكسرُ أهلَ البدعةِ ويذلهّم .
4- ذهابِ أحدِ الأمانينِ اللذينِ يحميانِ الأمةِ من الوقوعِ في الفتنِ والشرورِ ، والتعرّضِ لسخطِ الله ، وهذا ما عبّرَ عنه عمرُ بنُ الخطابِ – رضي اللهُ عنه – بقوله :” كان فيكم أمانانِ، مَضَتْ إحداهما، وبَقيَتِ الأُخرى،
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال آية- 33 رواه الحاكمُ في مستدركه .
5- عدمِ خلودِ أحدٍ – كائناً من كانَ – في هذه الدنيا ، فلمْ يُجعلْ الخلودُ لبشرٍ ، ولا البقاءُ لمخلوقٍ ، بل كتبَ اللهُ لذاته العليّةِ البقاءَ ، وكتبَ على سائرِ الخلقِ الموتَ والفناءَ .
قالَ تعالى :
{ وما جعلنا لبشرٍ من قبلكَ الخلدَ أفإنْ متَّ فهم الخالدون } سورة الأنبياء آية -34
6- رحمةِ هذه الأمةِ المُصطفاةِ ، إذ كان موته إيذاناً برحمتها ، وقد أشارَ إلى ذلك بقوله – ﷺ – :
” إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ إذا أرادَ رَحْمَةَ أُمَّةٍ مِن عِبادِهِ، قَبَضَ نَبِيَّها قَبْلَها، فَجَعَلَهُ لها فَرَطًا وسَلَفًا – أي سابقاً ومُقدّماً وشفيعاً – بيْنَ يَدَيْها، وإذا أرادَ هَلَكَةَ أُمَّةٍ، عَذَّبَها ونَبِيُّها حَيٌّ، فأهْلَكَها وهو يَنْظُرُ، فأقَرَّ عَيْنَهُ بهَلَكَتِها حِينَ كَذَّبُوهُ وعَصَوْا أمْرَهُ ” رواه مسلمٌ .
هذه هي بعضُ الأمورِ التي آذنَ – , آذنَ أي أعلمَ – بها موته – ﷺ –
وبأبي هو وأمي وأهلي وولدي والناسِ أجمعين
إذ كانَ رحمةً في حياته ، ورحمةً بعدَ مماته ،
فاللهم جازه عنا خيرَ ما جازيتَ نبيّاً عن أمته ، ورسولاً عن دعوته ،
واسقنا من يديه الشريفةِ شربةً لا نظمأُ بعدها أبداً برحمتكَ يا أرحمَ الراحمينَ .