الناقد “عون البحيصي” ودراسة نقدية لقصيدتين للشاعر ” عباس محمود عامر “
بقلم… عون البحيصي أبومعتز
غزة
القصيدة الاولى “الخبر والغربان”
القصيدة تحمل في طياتها رمزيات ودلالات عميقة، وتعبّر عن حالات من التوتر والصراع بين الأمل والخذلان. بدٱت بذكر الخبز وهو رمز للمعيشة الأساسية، لكنه يوضع فوق رؤوس الألوية الخرساء ما يشير إلى واقعٍ سياسي أو اجتماعي خامد، حيث الأمل في التغيير يبدو غير ممكن. ثم تتابع الحديث عن الغربان التي تنقر في هذا الخبز، وهي طيور ترتبط عادة بالخراب والموت، ما يوحي بعلاقة هذه الطيور بالدمار والفساد.
“خُبْزٌ فوقَ رؤُوس ِالألْويَةِ الخَرْسَاءْ
تنْقرُ فيه الغِرْبَانْ”
الريشات الحمراء التي تسقط بين جناحي الغربان قد ترمز إلى الدماء أو المعاناة الناجمة عن هذه الحالة الفاسدة، بينما أعناق المطر العجزى تدل على حال من الإحباط، فالمطر هنا ليس منبعاً للخصوبة أو التجديد، بل هو عجزى يسقط دون أن يحقق الفائدة المرجوة.
“وبينَ جنَاحَيْهَا ريْشَاتٌ حَمْرَاءْ
تسَّاقطُ أعْنَابُ المَطرِ العجْزَى
منْ فوقَ تكَاعِيبِ الصَّمتْ”
دمع العصفور الذي يترقرق قد يرمز إلى الحزن البسيط أو البكاء العميق بسبب فوضى العالم التي لا يملك العصفور القدرة على تغييرها، إذ أن العاصفة في فم الإعصار تعني أن هذه الحزن لا مفر منه، وأنه يتعرض للأذى داخل دائرة أكبر من قدرته على التأثير.
“ودمْعُ العصْفُورِ المترَقْرِقُ
يصْبحُ رَاحَاً فى فمِّ الإعْصَارِ “
أما رعد الغسق الراغد فهو مشهد من الطبيعة يعكس القوة الهادئة ولكن الحاسمة التي تصاحب الليل. والقول بأن لا يعتق عرى الشمس ختمت به المقطع لتؤكد حالة من العتمة أو القنوط التي تحول دون وصول النور، إذ تبقى الشمس محجوبة عن هذا العالم المظلم.
“ويضْحكُ رَعْدُ الغَسَقِ الرَّاقدِ
لايعْتقْ عُرْىَ الشَّمسْ”
باختصار، هذه القصيدة تصوّر معاناةً وأزمةً في عالم يتسلّط عليه اليأس، حيث تتجمع الرموز الطبيعية والحيوانية لتعبّر عن حالة الشلل، الصراع، والظلام الذي يعيشه الإنسان في ظل ظروف صعبة ومحصورة.
قصيدة الثانية”وجهك والرياح.”
قصيدة وجهكِ والرياح تركز على توظيف الرمزية والتصوير الفني لتعبر عن حالة من الصراع الداخلي بين النور والظلام، بين الاستمرارية والتشتت، وبين الوجود والانتهاء. تبدأ القصيدة بتساؤل فلسفي عميق ما الذي يحدث الآن؟ وهو سؤال مفتوح يعكس حالة من الحيرة والقلق. هذا السؤال يفتح الباب أمام رحلة شعرية تتنقل بين التجارب الذاتية والتصورات الرمزية.
“ما الذِي يحْدثُ الآنَ
كلُّ ضَوءٍ يُسَافرُ
يبْهَتْ
يسْقط ُمثلَ الشُّهبْ “
الجزء الأول من القصيدة يبدأ بإشارة إلى تحول الضوء واختفاءه حيث قمت بوصف كل ضوء يسافر ثم يبهت ويسقط كالشهب. هنا، الضوء ليس فقط المصدر الطبيعي للإنارة، بل هو رمز للأمل والحياة، الذي يتلاشى ويختفي أمام قوى أكبر من قدرة الإنسان على مقاومتها. سقوط الضوء كما الشهب قد يشير إلى الاندثار السريع للفرص والأحلام، ويعكس مشاعر الفقد والتراجع التي يمكن أن يشعر بها الشخص في لحظات من الضعف أو الضياع.
ولكن في النهاية، يبقى وجهكِ الزنبقي المضيئ هو العنصر الوحيد الذي يظل ثابتًا ومضيئًا في هذا الظلام. يشير الوجه هنا إلى الحبيبة أو الحضور الذي يمثل مصدر النور والأمل. وجه الحبيبة ليس مجرد صورة جسدية، بل هو رمز للضياء الذي يُضيء الحياة وسط التوترات والظلمات. كلمة الزنبقي تعزز هذا المعنى، فهي تحمل دلالة الجمال والنقاء مما يعكس صفاء العلاقات وأثرها الكبير في إضاءة القلب والعقل.
ثم تتابع لتصف هذا الوجه الذي يصارع طيش الرياح في إشارة إلى قوة مقاومة الحبيبة للأحداث العاصفة أو الظروف المحيطة. الرياح قد تكون رمزًا للعوامل الخارجية التي تحاول إبعاد الشخص عن طريقه أو تحطيم استقراره الداخلي. إلا أنك تتمنى أن ترحل عنك هذه الرياح بعيدًا لكي تبقى مضيئًا معك وهو يعكس حنينًا عميقًا للسلام الداخلي، حيث تصبح الوجود مع الحبيبة مصدرًا للطاقة الإيجابية والطمأنينة.
“لم يبْقَ سِوَى وجْهكِ الزِّنْبَقىِّ المُضِىءْ
يُصَارعُ طيْشَ الرِّياَحِ
لترْحَلَ عنِّى بَعِيدَاً
لأبْقَى مُضِيئاً مَعِكْ ..”
القصيدة تحمل عناصر من الرومانسية التي تركز على العلاقة العاطفية والتفاعل مع العالم الخارجي في ظل هذه العلاقة. الشعر هنا يميل إلى التعبير عن الحب الذي يكون أحيانًا مصدرًا للضوء، ولكنه في نفس الوقت يتعرض للتحديات والمصاعب، مثل الرياح التي تمثل القوى المعاكسة. هذا التفاعل بين النور والظلام، الأمل واليأس، يدفعك نحو حالة من الاستبطان العميق حول طبيعة الحب وضرورة الحفاظ عليه وسط العواصف.
إضافة إلى ذلك يتسم النص بالتركيب اللغوي البسيط والذي يسمح للقارئ بالتواصل المباشر مع المشاعر التي تعبر عنها من خلال الألفاظ التي تم اختيارها بعناية، مثل الزنبقي ومضيء يُمكن للقارئ أن يشعر بالنقاء والجمال الذي ترمز آلية في مواجهة الصعوبات.
الضوء والظلام: الضوء الذي يسافر ويسقط مثل الشهب يرمز إلى لحظات الحياة التي تمر بسرعة وتختفي. في مقابل ذلك وجهكِ الزنبقي المضئ يمثل النور الثابت، الذي يبقى رغم العواصف.
الرياح: الرياح تمثل القوى المدمرة أو التحديات الخارجية التي تهدد استقرارك ولكنها في الوقت نفسه تمثل التغيير المستمر الذي يواجهه الأفراد في حياتهم.
الشاعر في صراع داخلي بين رغبتك في الحفاظ على النور (الوجود مع الحبيبة) وبين القوى التي تحاول سحب ذلك النور منك ختاما القصيدة تتسم بالرمزية العالية، حيث تتداخل المشاعر والتصورات مع اللغة التصويرية الجميلة. وبذلك تكون قد نجحت في نقل حالة من الاضطراب الداخلي والتحديات العاطفية مع إبراز الأمل الذي يجد الشخص في الحب والصلة العميقة مع الآخر.
قصيدتان من خيال الشتاء
(1) الخُبْزُ والغِرْبَانْ ..
للشاعر.عباس محمود عامر
” مصر”
خُبْزٌ فوقَ رؤُوس ِالألْويَةِ الخَرْسَاءْ
تنْقرُ فيه الغِرْبَانْ ،
وبينَ جنَاحَيْهَا ريْشَاتٌ حَمْرَاءْ
تسَّاقطُ أعْنَابُ المَطرِ العجْزَى
منْ فوقَ تكَاعِيبِ الصَّمتْ ،
ودمْعُ العصْفُورِ المترَقْرِقُ
يصْبحُ رَاحَاً فى فمِّ الإعْصَارِ ،
ويضْحكُ رَعْدُ الغَسَقِ الرَّاقدِ
لايعْتقْ عُرْىَ الشَّمسْ …
(2) وجْهُكِ والرِّيَاحْ …
ما الذِى يحْدثُ الآنَ
كلُّ ضَوءٍ يُسَافرُ
يبْهَتْ
يسْقط ُمثلَ الشُّهبْ
لم يبْقَ سِوَى وجْهكِ الزِّنْبَقىِّ المُضِىءْ
يُصَارعُ طيْشَ الرِّياَحِ
لترْحَلَ عنِّى بَعِيدَاً
لأبْقَى مُضِيئاً مَعِكْ …