المجتمع المدني التربوي قوة مجتمعية ناعمة
داعمة لخيارات الدولة
بقلم كمال الحجام
توجد في حياة الشعوب لحظات تاريخية فاصلة يتم خلالها مراجعة طرحها للقضايا المجتمعية على ضوء السياقات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المحلية والدولية.
شش
ويحتل اليوم قطاع التربية في علاقته بنظام التعليم في النسيج المجتمعي لكل دولة،ش أكثر من أي وقت مضى، مكانة محورية.
وذلك نظرا للتغير النوعي الذي طرأ دوليا وإقليميا على كيفية طرح رهان التربية والتعليم وضرورة ربطه بالمسيرة التنموية المستدامة.
وينظر إلى التربية في القرن الواحد والعشرين على أنها المجال الأوسع الذي يحتوي التعليم وينظمه وفقا لمنهج استراتيجي يقوم على اعتبار الفرد إنسانا قبل كل شيء.. يطلب العمل على تحقيق نموه الإنساني وتكيّفه مع الجماعة التي يعيش معها.
وبهذا المعنى أصبحت التربية الحديثة تستهدف تعزيز قدرة الفرد على التكيّف مع المجتمع المحلي والعالمي وتطوير مهاراته الفردية للتفاعل مع الثقافة الإنسانية والمساهمة الفاعلة في إنجاح مسيرة التنمية المستدامة.
شإن النظر المستحدث للتربية على أساس دورها المحوري في تعزيز الجهود الوطنية في مسيرة التنمية المستدامة حسب الخطة العالمية في أفق 2030، تجعلنا نتجاوز النظرة الضيقة للمسالة التربوية اليي حكمت صياغة الأهداف الخصوصية لمدة طويلة من الزمن دون أن تقدر على تجاوز وضعها، نحو إرساء تصوّر جديد لها ينزّلها في أولويات الشعوب ويدرجها ضمن الأهداف الإنمائية للألفية. وهو في تقديرنا ما يجعلها أكثر تناسقا وترابطا داخليا في مستوى مكوناتها المتفاعلة شكلا ومضمونا، وما يسمح بطرحها بشكل منظومي يحترم مقتضيات المواءمة بين المحلي والكوني من جهة ويستند إلى شرط البناء التفاعلي الداخلي للتنمية المجتمعية القائمة على التعاون والتعاضد بين المجهود الحكومي من جهة وبين جهود المجتمع المدني من جهة أخرى. وذلك كما تبيّنه وثيقة “تحويل عالمنا” التي تمّ تحريرها في إطار خطة التنمية المستدامة 2030 والتي تؤكّد على تنزيل التربية ضمن هذه المسيرة التنموية المستدامة للمجتمعات الانسانية والقائمة على احترام المبادئ الثلاث الميسّرة للنجاح التنموي، على غرار تكامل الأدوار داخل المجتمعات، تنظيم القيادة الوطنية للجهود واعتبار مبدأ الشمولية والتضمين.
في هذا المجال يجدر، اليوم أكثر من أي وقت مضى، بالسلطة التربوية المفوّضة اجتماعيا داخل كل مجتمع إعادة النظر في تنظيم الجهود الوطنية لبلوغ الأهداف المؤمّلة، وطرح مسألة التنظيم الهيكلي أولا في مستوى تكامل الجهود بين مؤسسات الدولة الحاملة للخطة الوطنية في المجال التربوي وجهود المجتمع المدني التي تتنزل في إطار المساعدة والمعاضدة والتعاون والتكامل. وهو ما من شأنه أن يبني مناخ أفضل تتغير فيه النظرة المتبادلة بين الأطراف المعنية وتسود فيه الثقة المتبادلة ويترسخ فيه الالتزام بمبادئ الشفافية والمساءلة والاستقلالية والمسؤولية.
مهمّ جدا ما نلحظه اليوم من حركية داخل المجتمع في قطاع التربية والتعليم، ومهمّ جدا ما نعيشه من مبادرات متنوعة تؤديها قوى المجتمع المدني التربوي وما تنتهي به من نجاحات مختلفة على المستوى الفردي كما على المستوى الجماعي. ويبدو في رأيي أن الأهم هو التفكير في كيفية استثمار هذه التجارب وربطها بالواقع ومتطلباته، كما أن الأهمّ أيضا من جهة أخرى أن يتوفّر الوعي بأن ما قد ينتجه المجتمع المدني لا يعدو أن يكون بشكل من الأشكال إفرازات فاعلين مجتمعيين تمكنوا من كسب رهان النجاح. إن الوعي بهذه الأهمية لمساهمة مكونات المجتمع فرادى وجماعات وتشكيلات قانونية ينبني على مصادرة مفادها أن المجتمع المدني في الاشتغال الديمقراطي للمجتمعات يمثل القوة المجتمعية الناعمة التي تساند جهود الدولة في مسيرتها التنموية لقطاع التربية والتعليم. ويؤكّد ضمنيا القدرة المجتمعية على السعي إلى طرح قضايا المجتمع الأكثر أهميّة والعمل على تحليلها وفهمها واقتراح سبل معالجتها. فالمجتمع المدني بصفته جزءًا من المجتمع، يشار إليه بالقطاع “الثالث” أو “غير الحكومي” ويضمّ بهذا المعنى كلّ الجمعيات وشبكات الترابط الممكنة بين العائلة والدولة، ويشترط أن تكون فيها المساهمة مبنية على التطوّع والمساعدة اللامشروطة لجهود المؤسسات الحكومية.
ولعلّ ما يكتسي أهمية في هذا التنظيم التعاوني التربوي هو تطوير قدرة المجتمع على إدراك مشاكله وضمان مواجهتها بشكل جماعي، وتأسيس فكرة الميثاق الوطني والعقد الاجتماعي الذي يؤطر المسؤوليات بين مؤسسات الإشراف التربوي للدولة وبقية التنظيمات الفاعلة في المجتمع من أجل إرساء عمل تشاركي وفق معايير عادلة ومشاريع تنموية فاعلة يتمّ ضبطها بإحكام وبرؤية واضحة المعالم من قبل مؤسسات الدولة في المجال التربوي. إننا نؤكّد بهذا المعنى تنظيم المجتمع المدني وتمظهره وتشكله القانوني كنتيجة للدولة المتحضّرة التي تسعى إلى تنظيم جهودها والعمل على بناء خطة تناسق وتكامل توضح المشاريع وترسي خطط عمل تنفيذية قائمة على تكامل الأدوار لتكون الدولة بذلك أمام تخطيط منهجي تطبيقي ييسّر تحقيق التطور المنشود في قطاع التربية.
يحمل المجتمع المدني بهذا الشكل بعدا جماعيا تشاركيا يضمن تفاعل الجهود وتكامل الوظائف، ويشير في مضمونه إلى تطبيق واقعي لمفهوم المواطنة التي تعني المشاركة المجتمعية المنظمة في تطوير قطاع التربية. وبذلك تتلخص جهود المجتمع المدني التربوي بأنها الرديف الحقيقي للدولة الذي يعزّز مبادئ الحوكمة القائمة على الرقابة والتقييم والمساءلة والمتابعة والتطوير. وبقدر ما ينجح المجتمع المدني في تأمين دوره، بقدر ما يساهم في إيجاد حلول التطوير للتربية والتعليم، وبقدر ما يوفّر فرص التدرّب المنظّم والمنهجي للتنشئة المجتمعية. إنّه بذلك يدعم نشر قيم الانتماء والتعاون والتضامن والاستعداد لتحمّل المسؤولية، والمبادرة بالعمل الإيجابي والاهتمام والتحمّس للشؤون العامة للمجتمع كله.
وتبعا لما تقدّم تجدر الإشارة إلى الوعي بمسألتين مهمتين ومتداخلتين، تتمثل الأولى في ضرورة أن تمسك مؤسسات الدولة المكلفة بالتربية والتعليم بملفاتها الخصوصية وأن تتولّى تنظيمها وإخراجها في شكل خطة استراتيجية تبين الرؤية المجتمعية الحاملة للخيارات التربوية للمجتمع، وهو ما يفترض القدرة على الاستشراف وبناء المستقبل التربوي والعمل على نشره وتوضيحه وتفسيره بشكل علني ليخرج من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل، وليكون تبعا لذلك منطلقا لكل جهد مجتمعي خصوصي للقطاع. وتتمثل المسألة الثانية، حرصا على توفير ضمانات نجاح المجتمع المدني في شراكته وتعاونه، في إيجاد خارطة طريق لممثلي المجتمع المدني وتنظيم مساهمته بشكل تتوضح فيه الأدوار وتنتظم فيه الجهود. وهو ما يؤدي في النهاية إلى الاعتراف بالنتائج المتوصل إليها وأخذها بعين الاعتبار في مسيرة التطوير المنظمة. إننا نشهد بهذه الطريقة المنهجية تقدّما منظما شكلا ومضمونا في معالجة الشأن التربوي، كما نضمن بذلك تجاوز قوى التعطيل الممكنة التي قد تظ
هر لاحقا أثناء التنفيذ.