الغزل بين التراث والاستحداث
الشاعر عباس محمود
خلق الله المرأة بكتلة تتوهج بالمشاعر لم ولن تنطفئ .. ومنحها قدرا من الحسن والجمال لتأخذ صفة الأنوثة .. من هنا كانت لها مؤثرات كامنة في دواخل الشاعر .. أصبح يعبر عما يجول في دواخله من وصف المرأة وإبراز محاسنها ومفاتنها وخلجات أنوثتها .. لما لها من تأثير في الجاذبية المشتركة والتغني بها .. وهذه الجاذببة تتفاعل داخل روحين روح الشاعر وروح المرأة .. مما جعل الشاعر يقوم بتصوير هذا التفاعل الروحي في صيغة فنية شعرية .. سميت هذه الصيغة بالغزل ..
أول ما ظهر الغزل .. ظهر في مصر القديمة في عصر القدماء المصريين .. كشفت عنه بردية شستر بيتي في قصيدة “العاشقة العذراء” وهي عن أجمل قصة حب خلدها التاريخ بين نفرتاري ورمسيس الثاني والذي تزوجها بعد ذلك .. إذ تقول فيها نفرتاري :
“لقد أثارني حبيب قلبي بصوته
وتركني فريسة لقلقي وتلهفي
إنه يسكن قريبًا من بيت والدتي
ومع ذلك فلا أعرف كيف نحوه
ربما تستطيع أمي أن تتصرف حيال ذلك
يجب أن أتحدث معها
وأبوح لها
إنه لا يعلم برغبتي في أن آخذه بين أحضاني
ولا يعرف بما دفعني للإفصاح بسري لأمي
أن قلبي يسرع في دقاته عندما أفكر في حبي
إنه ينتفض في مكانه
لقد أصبحت لا أعرف كيف أرتدي ملابسي
ولا أضع المساحيق حول عيني
ولا أتعطر أبدا بالروائح الذكية”
بعد ذلك تجدد الغزل وظهر في عدة مسميات مثل الغزل العفيف والغزل العذري والغزل البدوي والغزل الحسي والغزل الصريح والغزل الفاحش .. تحددت هذه المسميات طبقا لخصائص كل مسمى ..
ومع طبيعة المجتمع تغيرت المرأة تماما في العصور الحديثة .. وعبر الشعر الحديث عن تحولات المرأة ..ليكون الجسد هو الإطار الشكلي في الغزل .. والمادة أصبحت من أهم أهداف المرأة .. تحولت من العاطفة الروحية إلى العاطفة السطحية ظهرت فيها ملامح المشاعر الدفينة في صورة باهتة .. بفعل التأثير الرأسمالي للمجتمعات الذي غير كل النواحي الإجتماعية والإقتصادية والثقافية .
نستعرض التحول الملحوظ للغزل .. ففي الشعر الجاهلي حيث يبهرنا الشاعر “علقمة الفحل” في ابياته التالية يتغنى فيها بجمال المرأة :
“وفي الحيِّ بَيضاءُ العَوارِضِ ثَوبُها
إِذا ما اِسبَكَرَّت للشَبابِ قَشيبُ
وَعيسٍ بَرَيناها كأَنَّ عُيونَها
قَواريرُ في أَذهانِهِنَّ نُضوبُ
وَلست لِإنسِيٍّ وَلَكِن لِمَلأَكٍ
تَنَزَّلَ مِن جَوِّ السَماءِ يَصوبُ” .
كما أبهجنا امير الشعراء “أحمد شوقي” في غزل يتجلى بين الأبيات التالية :
“بَيني وَبَينَكَ في الهَوى
سَبَبٌ سَيَجمَعُنا مَتينُهُ
رَشَأٌ يُعابُ الساحِرونَ
وَسِحرُهُم إِلّا جُفونُهُ
الروحُ مِلكُ يَمينِهِ
يَفديهِ ما مَلَكَت يَمينُهُ
ما البانُ إِلّا قَدُّهُ
لَو تَيَّمَت قَلباً غُصونُهُ
وَيَزينُ كُلَّ يَتيمَةٍ
فَمُهُ وَتَحسَبُها تَزينُهُ” .
والغزل يأخذ شكلا آخر عند الشاعر العراقي بدر شاكر السياب نراه في هذه الأبيات يقول :
“عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ،
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر.
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
وترقص الأضواء… كالأقمار في نهَرْ” .
أما الشاعر “نزار قباني” من شعراء العصر الحديث الذي أخذ طابعا خاصا .. فكتب غزلا في قصيدته :
“يا سيِّدتي:
أنتِ الآنَ.. أهمُّ امرأةٍ
بعد ولادة هذا العامْ..
أنتِ امرأةٌ لا أحسبها بالساعاتِ وبالأيَّامْ.
أنتِ امرأةٌ..
صُنعَت من فاكهة الشِّعرِ..
ومن ذهب الأحلامْ..
أنتِ امرأةٌ.. كانت تسكن جسدي
قبل ملايين الأعوامْ ” .
نلاحظ أن الغزل مر بعدة مراحل .. كل مرحلة تأثرت بطبيعة كل عصر على حده .. كما تغيرت المفردات اللغوية في الغزل من الشعر الجاهلي حتى العصر الحديث.
الشاعر. عباس محمود عامر
“مصر”