التجاوز عن المعسر
محمود سعيد برغش
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “تَلَقَّتِ المَلائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكُمْ، فقالوا: أعَمِلْتَ مِنَ الخَيْرِ شيئًا؟ قالَ: لا، قالوا: تَذَكَّرْ، قالَ: كُنْتُ أُدايِنُ النَّاسَ فَآمُرُ فِتْيانِي أنْ يُنْظِرُوا المُعْسِرَ، ويَتَجَوَّزُوا عَنِ المُوسِرِ، قالَ: قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: تَجَوَّزُوا عنْه”
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “كانَ تاجِرٌ يُدايِنُ النَّاسَ، فإذا رَأَى مُعْسِرًا قالَ لِفِتْيانِهِ: تَجاوَزُوا عنْه، لَعَلَّ اللَّهَ أنْ يَتَجاوَزَ عَنَّا، فَتَجاوَزَ اللَّهُ عنْه”
شرح الحديث
وفي الحديثِ الثاني يَقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “إنَّ رَجُلًا لم يعْمَلْ خيْرًا قَطُّ”، أي: لم يعْمَلْ خيْرًا أبدًا فيما مَضَى مِن عُمُرِه، ولعلَّ المُرادَ أنَّه لم يَعمَلْ من الخيرِ شيئًا قَطُّ إلَّا التَّوحيدَ، كما فسَّرها ابنُ مَسعودٍ في رِوايتِه عندَ أحمدَ: “لَمْ يَعمَلْ مِنَ الخَيرِ شَيئًا قَطُّ إلَّا التَّوحيدَ”( )؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يَغفِرُ للذين يَموتون وهُمْ كُفَّارٌ، وهذا سائِغٌ في لسانِ العربِ أنْ يُؤتَى بلَفْظِ الكُلِّ والمُرادُ البعْضُ.
قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “وكان يُدايِنُ الناسَ”، أي: يُعامِلُهُم ويُعطيهِم بالدَّيْنِ، ”فيقولُ لرَسولِهِ:”يعني يقولُ لعامِلِهِ عندَ وقْتِ جمْعِ هذا الدَّينِ من الناسِ، “خُذْ ما تيسَّر”، أي: خُذْ ما سَهُلَ للمديونِ أداؤُهُ، “واترُكْ ما عَسُرَ”يعني: ما شَقَّ أداؤُه عليه، “وتَجاوَزْ”، أي: لا تَتعرَّضْ له بمُطالَبَةِ ما يَشُقُّ عليه، واعْفُ عنهم، “لعلَّ اللهَ يتجاوَزُ عنا”يعني: يعفو عن ذُنوبِنا وخَطايانا، “فلمَّا هَلَكَ”، أي: ماتَ، “قال اللهُ له: هل عَمِلْتَ خيرًا قَطُّ؟”وهذا سؤالُ العالِمِ بأحوالِ عِبادِهِ، وهو سُؤالُ تَقريرٍ للعبدِ؛ ليشْهَدَ على نَفسِهِ “قال: لا”وهذا العموم مُخصَّصٌ قَطعًا بأنَّه كان مُؤمِنًا، ولولا ذلك لَمَا تَجاوَزَ عنه، “إلَّا أنَّه كان لي غُلامٌ”، أي: خادِمٌ، “وكُنْتُ أُدايِنُ الناسَ، فإذا بعَثْتُه يَتَقاضَى”، أي: لِيَقْبِضَ الدَّينَ، “قلْتُ له: خُذْ ما تيسَّر، واترُكْ ما عَسُرَ، وتَجاوَزْ، لعلَّ اللهَ يَتجاوَزُ عنَّا، قال اللهُ تَعالى: قد تَجاوَزْتُ عنك”، أي: عَفَوْتُ عن ذُنوبِكَ، وغَفَرْتُها لك.
وفي الحديثِ: أنَّ اليَسيرَ مِنَ الحَسَنَاتِ إذا كان خالِصًا للهِ كفَّر كثيرًا من السَّيِّئاتِ.
كان هذا التاجر خلقه التساهل مع الناس، وإنظار المعسر، فلم يكن يعنف أحدا، ولا يلوم أحدا تأخر في السداد، وإنما يتجاوز عن الناس.
بعض الناس يفهم أن هذا الباب يمكن أن يفتح ثغرة واسعة لمن يتفلتون من الديون، هذا موضوع جميل، وهو التفلت من عدم السداد، ولقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الموضوع كله في قوله: “من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله”( )، أي أن العبرة عندنا في نية الإنسان عندما يرغب في السداد أو عدمه، فإذا كان يرغب أن يسدد فإنه سيعان، وإذا لم يكن يرغب أن يسدد فلن يعان.
لا ينبغي أن نلوم صاحب الدين، بل إذا ضج صاحب الدين، واشتكى للشرطة فإنه لا يأثم، لأن الذي أخذ أموال الناس أراد إتلافها، ولو أنه أراد السداد لأعين على ذلك.