كتب محمود جنيدى
منذ فترةٍ ونحن نتابع هذا السجال الذى تدور رحاه بين بعض المواطنين من جانب والفريق الطبي من جانب آخر . فَحَكَمنا عليهم بالرجم حتى الموت وقُمنا بِدَفْن معظم أعمالهم وتضحياتهم ( إن لم يكن كلها ) في التراب . وراح كل عابرٍ منا يرميهم بحجر وكأننا بلا خطايا . فهم من قتلوا المرضى في المستشفيات بإهمالهم . وهم من يتهربون من الميدان . وهم من لا يُجيدون حسن التعامل مع المرضى إلى آخر قائمة الإتهامات. وكأننا نحن المبرءون من كل عيبٍ وخطيئة . ثم كانت خطيئتهم الكبرى يوم أن تجرأوا وطالبوا ببعض مستلزمات الوقاية من بدلٍ واقية وأغطية رأسٍ وكمامات ليُكمِلوا أعمالهم في مناخٍ يحقق لهم أبسط درجات الوقاية . فكانت هذة هي القشة التى قصمت ظهر بعيرنا . فراح البعض منساقين وراء أبواقٍ إعلامية رخيصة يكيلون لهم الإتهامات بأنهم خلايا إخوانية هبت من نومها ليعيثوا في الأرض فساداً وليقلبوا المعبد على رأس من فيه .
أى ميدان هذا الذى تَهَرَّب منه الأطباء يا سادة ؟! . ألم تروا جحافل المدرسين الذين أنهمروا كالسيل الجارف يقدمون أوراق إعتذارهم لعدم المشاركة في المراقبة على امتحانات الثانوية العامة خوفا من العدوى ؟! والغريب والمدهش أن أوراقهم هذه لن تقبل إلا إذا كانت معتمدة من طبيب ممن نتهمهم اليوم بالهروب من الميدان ! . ألم تروا وتسمعوا صُراخ الأمهات وأولياء الأمور لوزير التعليم كى يؤجل الإمتحانات خوفاً على أبناءهم من العدوى . وللأسف تعاطفنا مع كل هؤلاء . ورفعنا معهم أكف الضراعة للوزير . بينما رفعنا السيوف على رقاب الأطباء . ثم نقول للطبيب ( الجندى الهارب من الميدان خائن ) . نعم ياسيدى كل هاربٍ من ميدان عمله خائن . ولكن ليس من أراد أن يتحصن ليزداد صموداً في عمله خائن . ليس من خاف على أولاده وأبويه خائن . أليس هذا الطبيب أبٌ يخاف على أبناءه ؟! . أليس هذا الطبيب إبنٌ يخاف على أبويه كبار السن . دخلنا نحن داخل الحوائط من الرعب والخوف من العدوى واستنكرنا على الطبيب أن يأخذ بابسط قواعد الحيطة والحذر.. !! .
أى معاملةٍ فظَّة تلك التى عاملك بها الطبيب ياسيدى . وهو الواقف على خط النار وجهاً لوجه مع الفيروس ؟ .. سل نفسك ياسيدى : كم مرة ذهبت لإنهاء مهمة في إحدى المصالح الحكومية وقوبلت بوجوه كالحة تغنيك عن إنهاء المصلحة أصلاً ؟ كم مرة تَفْتَف في وجهك موظف حكومى وشخط ونطر ؟ . كم مرة رمى إليك بالأوراق إذ ينقصها ختم أو إمضاء من الأستاذة سنية في الدور الفلاني أو أن الختم على ورق حضرتك مش واضح لسيادته ؟ . كم مرة سمعت فيها ( فوت علينا بكرة ) لا لسبب إلا لأن مزاج سيادته مش رايق النهاردة ؟ . وأنت في كل مرة تزف إليه من الألقاب ما لم يَحْظ بها ملكٌ متوجٌ على عرشه من باشا لبيه لحضرتك لسيادتك . ولا مانع من تقديم بعض المُحِفزات والمشهيات . إلى أن تغادر المصلحة وأنت في منتهى السعادة أن أنجزت المهمة . ثم تأتي للطبيب الذى كثيراً ما يصل ليله بنهاره ولمدة أربعة أشهر متتالية وتقول له أنه يعامل المرضى بغرورٍ واستعلاء ..!!
الإخوة أصحاب التُهم الجاهزة المُعَلبة . إن كنتم تطوعتم للحراسة
فلا تطلقوا النار عشوائياً في اتجاه كل قادمٍ عليكم . فليس كل من يقترب من مكان حراستكم لِصٌ . وليس كل من جَاهَر بمطالبه خائنٌ أو عميل . كفانا دفن رؤوسنا في الرمال . فلم نعد نخرجها إلا لنوجه هذة التهمة البغيضة ثم نُعيدها إلى الطين مرةً أخرى . دعوا الدولة بأجهزتها الرقابية تتلمس المشاكل وتعمل على حلها . من يُنكر أن بعض المستشفيات بها نقصٌ في بعض المستلزمات في ظل جائحةٍ مفاجئة فاقت امكانياتنا الطبية ؟ . من يُنكر أن نسبةً لا بأس بها من هذه المستلزمات يتم تدبيرها من التبرعات ؟. فلا كَفَر الطبيب الذى طالب باستكمال النقص الذى يحفظ حياته وحياة مرضاه .
الإخوة أصحاب المناظرات الوظيفية : ( مقولة الجندى الهارب من الميدان ) . فالجندى يا سيدى يتم تسليحه بما يُمَكِنَه من تحقيق مهمته . بل ويُدَّعم بالدعم النوعي الذى يُساعده في التغلب على الصعاب التي قد تطرأ على معركته مع عدوه . فإذا كان الجندى يرتدى خوذة وأوفرول وحذاء وأحيانا قناع واقي يقيه من الهجمات الكيماوية والبيلوچية . فمن حق الطبيب أيضاً أن يكون له غطاء رأس طبي وحذاء طبي وبدلة طبية وكمامة . وإذا كان الجندى يتعامل مع عدوه من وراء ساتر وبالكاد يظهر فوهة بندقيته .. فمن حق الطبيب هو الآخر أن يتعامل مع الفيروس من وراء ساتر . وساتر الطبيب ياسيدى هي مهمات الوقاية .
في المنطق يا سيدى ما يعرف بنظرية القرآئن الدالة . فإذا كان أمامنا مُخرجات فحتماً سبقتها مُدخلات . وإذا خرج من المستشفيات مئآت المرضى بعد أن أتم الله شفائهم . فحتماً ياسيدى وراء هذا الشفاء جيشٌ جرار من الأطباء والصيادلة والممرضين واصلوا الليل بالنهار حتى يخرج مريضُك مُعافاً. وأعلم أن بمصر آلاف المستشفيات والصروح الطبية يديرها بكل جدارةٍ واقتدار . أطباء على أعلى درجات العلم والكفاءة .
تفكر وتدبر ياسيدى : كم فَرِح الناسُ بعودة الحياة تدريجياً ومن ثَم عودة المقاهى والكافيهات والنوادى . ومنا من ينتظر عودة المصايف . ولكن هل تعلم أن هذة الإنفراجة التى فَرحتَ وتهللت بها هي وبالاً على رؤوس الفريق الطبي . إذ عليه أن يستعد من الآن لإستقبال المزيد من الإصابات . مصحوباً بالمزيد من المعاناة والتضحيات والمزيد من التقييد على أجازاتهم وراحاتهم . فحضرتك قد تجلس مُمَدداً تحت الشمسية على أحد الشواطئ . وهو متشوق ليوم أجازة يقضيه مع أولاده مثلك .
فليس من البطولة ياسادة أن نتطاول على هذة الفئة . فمنا من تطاول عليهم عبر صفحات التواصل . ومنا من تهجم عليهم فى عقر دارهم . فهذا ليس من البطولة في شيء وإنما هو للأسف ليقينك أن هذه الفئة لا تعرف التعامل بهذه الطريقة . فلن يُخرِج لك الطبيب مطواة قرن غزال من طيات ملابسه . ولا نصف موس من تحت لسانه .
فيا كل طبيبٍ آلمه ما سَمِع : قُبلةً مني فوق رأسِك تقديراً وعرفاناً بما قدمته وتقدمه . وأعلم أخي أن من تطاول عليك ليس هو كل المصريين . ولنتحمله لحظة قلقه وغضبه وخوفه على حياة مريضه …. وياكل مواطنٍ تعرض في مستشفى لما أغضبه من طبيب كان مستهتراً أو لم ينتفض معك كما كنت تتمنى : قُبلةً مني على رأسك تقديراً واحتراماً لخوفك على مريضك . وليس هذا الطبيب هو كل وزارة الصحة . ولنتحمل ونتسامح معه فقد يكون بعيداً عن أولاده منذ فترة . أو واصل ليله بنهاره لعدة أيام . أو بلغ ذروة الإعياء النفسى ..
ياسادة : قل الحق من ربكم . فمن شاء أن يتكلم فليقل خيراً أو ليصمت . فإن أهمل طبيب ففي المقابل آلافٌ من الجَادِّين . وإن تخاذل طبيب ففي المقابل عشراتٌ ممن قدموا أرواحهم ببطولةٍ وفدائية . فلنُنزِل هؤلاء منزلتهم التى يستحقونها . ولنرفع أيدينا عنهم . ولا داعى كل حينٍ لهذه المقارنات والمناظرات الوظيفية . فلا البندقية تحل محل السماعة . ولا السونكي يصلح لأن يكون مشرطاً . فكلٌ ميسرٌ لما خُلق له . وكلٌ في مجال عمله سَيِّد .
فلا القطار ينبغي له أن يُبْحِر .
ولا السفينة تمشي على اليَبَس .
وكلٌ في فلكه يدور ويُنتِج .