كتب : رؤف جنيدى
على شفا جُرُفِ الحياة وقد أوشك أن ينهار . وعند آخر منعطفات العمر . جلس هذان الزوجان جلسة العرفان . تقبع بينهما عشرات السنين من العطاء . وبين نظرات العيون الغائرة . يتدفق مخزونٌ هائلٌ من المودة والرحمة …. وعلى صفحة الوجوه رسم الزمن تجاعيد وتشققاتٍ . كم جرت فيها حباتُ العرق سعياً واجتهاداً …. وعلى عافية الأجساد . عربد الزمن بأقدامه الرعناء فتركها هزيلةً واهية …. وعلى حفيف أنفاسٍ هادئة بالكاد تدخل وتخرج . أقسمت القلوب بصوتٍ هامس أنها على قيد الوفاء باقية . تحمل الخير وتضخ الوفاء وتنشر السكينة على عيون كل من نظر اليهم . وعلى لمسات الوصال وتشابك أصابع الود . سَرَت موجات الدفء وتدفقت أنهار حبٍ نبعت روافدُها من مسافة ستين عاماً أو يزيد . ومازال النهر يجرى بالعرفان . صحيح : رحل الجمال وانحسرت النضارة .. ولكن بقيت الرحمة والسكينة ..
انسحب الزوجان من مضمار الحياة . بعد أن تسللا من طابورها الطويل . ليهدأ اللهاث قليلاً . وليتكور كل منهما على الآخر بعيداً عن ضجيج الحياة وصخبها الممل . وليسمع كل منهما على مهلٍ نبض رفيق عمره وحديث قلبه ووفاء جوارحه .. يطبع الرجل على يد رفيقة حياته قُبلةً تحمل الشكر والعرفان لستين عاماً من المودة والرحمة . كمن أمهر كتاباً عن حياته بتوقيعه وإمضاءه بعد أن قرأه فوجد الكتاب لم يغادر فضيلةً ولا مكرمةً إلَّا أحصاها . ووجد ما عملته رفيقة عمره حاضراً فى عيونها حباً ووفاءً . فأخذ منها يدها ليطبع عليها قُبلةً بشفاهٍ أقرت وأعترفت بما كان منها ومعها . وكأنها صُنعت على عينه وصُنع على عينها . فكم كانت سكناً له على قدر ما كان سكناً لها . فأفرغ الله بينهما الآن كل مودة الدنيا ورحمتها .
أزاح الزوجان عن وجهيهما كل حصاد الدنيا . وحط كل منهما عن كاهله كل أحمالها من مالٍ وبنينَ وحفدة بعد أن فنيت الأعمار وتوارت العافية . وأبقيا فقط على ما حملته القلوب من حبٍ وإخلاصٍ . إبتسامةٌ من الزوجة صحيح أنها ارتسمت بالكاد تزاحم تجاعيد الزمن كى تظهر . ولكنها فى نظر رفيق العمر هى الأعلى دوياً والأجمل من كل الوجوه .. وقُبلةٌ من الزوج على يدها قرأت رفيقة العمر ما خطته هذه القُبلة على قلبها سطراً سطراً . فما أصدق القلوب حديثاً إن هى نطقت . وما أرفع الجوارح نبلاً إن هى عبَّرَت …
فيا كل زوجين :
سينحسر الشبابُ يوماً ولن يبقى إلَّا شباب الروح …
ستنحسر نضارة الوجه يوماً ولن تبقى إلَّا نضارة القلب ..
سيُوهِن العظم يوماً .. فقَوِّه بسواعد الود والمروءة…
سيشتعل الرأس شيباً .. فامسح عليه بأصابع العرفان …
سينحنى الظهرُ يوماً .. فأقِمْهُ على دعائم الحب والإحتواء ….
سيضْعُف بصر رفيق العمر .. فكن له العينين …
سيضْعُف سمع رفيق العمر .. فكن له الأذنين …
سيمشى رفيق العمر مستنداً …. فكن له المُتكأ …
ياسادة :
لا يكفى أن نحب ونحنو كثيراً ولكن الأهم أن نحب ونحنو أخيراً .
لا يكفى أن نرفق ونتراحم كثيراً ولكن الأهم أن نرفق ونتراحم أخيراً ..
واعلم أخى الكريم .
أن لمسةً حانية على يديها الآن . هى دفقةٌ حارة فى ليالى بردِها . بعد أن دثَّرتك طويلاً …
وأن قُبلةً عرفانية على يديها الآن . هى شمسٌ أشرقت فى خريفها . بعد أن أشبعتك ربيعاً …
فلنتراحم فيما بيننا .. قبل أن نترحم على ما كان بيننا .