قصة قصيرة
صعيدي في الإسكندرية
بقلم محسن معالي
في صَيفِِ 1960 من القرْنِ المَاضِي ، هَاجَرَ عَبْدُ العَزِيزِ وَأُسْرتُهُ منْ أَقصَى صَعِيدِ مِصرَ إِلى عَروسِ البحْرِ المُتوَسِّطِ الإِسكَندَرِيَّة هَرَبًا مِنَ العَمَلِ الشَّاقِ بِاليُومِيَّةِ وَعَمَلِ التَرَاحِيلِ
وَلِتَدَنِّي الأُجُورِ مَعَ قَسْوَةِ العمَلِ، فَقَرَّرَ الفِرَارَ ، طَلَبًا للعَمَلِ وَالبَحْثِ عَنِ الرِّزْقِ الذِي لَمْ يَجِدْهُ في قَريَتِهِ.
لم يَكُنْ عَبْدُ العَزِيزِ يَمْتَلِكُ أَيَّةَ مُؤَهِّلَاتٍ تُوَفِّرُ لَهُ فُرْصَةَ عَمَلٍ
فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّمًا بَلْ لَمْ يكُنْ يَعرِفُ القِرَاءَةَ أَوِ الكِتَابَةَ
جُلَّ مَا كَانَ يَستَطِيعُهُ ، وَيَفخَرُ بِهِ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكْتُبَ اسْمَهُ ، فَقَدْ كَانَ يَعِدُّ ذَلِكَ إِنجَازًا .
كَانتْ شَخْصِيِّةُ عَبْدِ العَزِيزِ تُنبِئُكَ بِعِزَّةِ النَّفسِ ، والجِدِّيَةِ والرجُولَةِ التي اشْتُهِرَ بِها أَهْلُ صَعِيدِ مِصْرَ .
كَانَ عَبْدُ العَزِيزِ رَجُلًا متَوسِّطَ القَامَةِ ، يُعَاني شَيْئًا مِنْ ضَعْفِ في البَصَرِ
إِذَا مَا أرادَ أنْ يَنْظُرَ في شَيءٍ قَرَّبَهُ بِشَكْلٍ كَبِيرِ إِلى عَينَيهِ حَتَّى يَسْتَطِيعَ رُؤْيَتَهَ
رَجُلٌ أَبِيُّ النَّفسِ يجِدُّ للحُصُولِ عَلَى رِزْقِهِ ، وَلِيُوَفِّرَ لأسْرَتِهِ قَوتَ يَومِهِمْ
فَهُمْ زَوْجَةُ وابنَة وُابنُه صَلَاحُ الذِي بَلَغَ مِنَ العُمْرِ خمسَ عشَرةَ سَنَةً .
لَمْ يَكُنْ صَلَاحُ يُحبُّ الدِّرَاسَةِ لِسَبَبٍ أو لآخر
فَقَدْ رَسَبَ فِي امتحَانِ الابتدَائيَّةِ وَكَانَ يَكْتَفِي بِاللَّعْبِ
أَوْ ربَّمَا يَذْهَبُ لِيَشتَرِي احتِيَاجَاتِ التِي يَحتَاجُهَا سُكَّانُ العِمَارَةِ
وَيَأْخُذُ قِرْشَ صَاغٍ مَقَابِلَ ذلكَ الجَهْدِ ، ويَشْتَري بهِ مَا يَشَاءُ.
أمَّا الابنةُ
فَكَانَتْ فَتَاةً جَمِيلَةً رَقِيقَةً ، تُشَاركُ وَالدَتهَا في أَعمَالِ المَنزِلِ مِنْ تَنْظِيفِ الحُجْرَاتِ ، وَالمُسَاعَدَة في إِعدَادِ الطَّعَامِ
وَكَانتْ أُمُّهَا تَحرِصُ عَلَى تَعلِيمِهَا تِلكَ الأَعمَالِ إِلى جَانِبِ أَنَّها كَانتْ حَريصَةً عَلَى الذِّهَابِ إِلى المَدرَسَةِ بِانتِظَامِ رَغبَةً في التَّفَوُّقِ في دِرَاسَاتِهَا.
ذَاتَ مَسَاءٍ جَلَسَتْ تَتَجَاذَبُ أَطرَافَ الحَدِيثِ مَعَ أُمِّهَا
فقالَتِ لها الأُمُّ : أَتُحِبِّينَ المدَرَسَة يا زَينَبُ؟
– رَدَّتْ :
نَعَم يَا أمي
لَقدْ تَعَلَّمْتُ عُلُومًا مُفِيدَةً في المَدْرَسَةِ ، كَالحِسَابِ وَموضُوعَاتِ اللُّغَةِ العَربيَّةِ ، وَعَرَفَتْ تَارِيخَ بلادِنَا
وَالأَعدَاءَ الذِينَ اعتدُوا عَلَينَا، وَعَرَفْتُ حُدُودَ بَلَادِي ، وَأَهَمَّ المُدُنَ ، وَأَبرَزَ مَا تَتَمَيَّزُ بِهِ كُلُّ مَدِينَةِ .
– سَألَتِ الأُمُّ :
ما العمَلُ الذي تَتَمَنِّينَ الَعمَلَ بهِ عندما تَنتَهِينَ من دراستكِ؟
– صَمَتَتْ زَيْنَبُ بُرْهَةً ثُمَّ قَالَتْ أَتَمَنَّى أنْ أصبحَ مُعَلِّمَةً مِثْلَ مُعَلِّمَتِي التِي تُعَلِّمُنِي في الفَصْلِ ؛
فَهِيَ مُعَلِّمَةٌ مُجتهدَةُ ، وَتَبذُلُ جَهْدًا في تَعلِيمِ التَلَامِيذِ
وَكُلُّ التَلَامِيذِ يُحِبُّوَنَهَا ، وَيَحترِمُونَهَا.
– قَاَلتِ الأمُّ :
أَحْسَنْتِ يَا زَينَبُ في اختيارِ قُدْوَتِكِ ، فَالقُدْوَةُ الطَّيِّبَةُ تَجْعَلُ الخَيرَ بَيْنَ النَّاسِ .
– نَعَم يَا أُميِّ فَقَدْ قَالَتِ المُعَلِّمَةُ لَنَا :
إِنَّ اللَه لا يُضِيعُ أَجْرَ مَن أَحْسَنَ عَمَلًا.
– كَانَ عَبدُ العَزِيزِ يَعمَلُ حارسًا للعِمَارَةِ التِي يُقِيمُ فِيهَا
في شَارِعِ دَنُوبِ خَلْفَ سِينِمَا أُودْيُونَ بِمَنْطِقَةِ كَامْبِ شِيزَار في الطريق المؤدِّي لسوقِ شِيديا أحد أعرق الأسواق بالإسكندرية .
لَمْ تَكُنِ العِمَارَةُ جَدِيدَةَ
بَلْ كَانَتْ قَدِيمَةَ مُتَهَالِكَةَ ، وَأَعْطَاهُ صَاحِبُ العِمَارَةِ
(الخَوَاجَةُ كِريَاكُو) سَكَنًا في السَّطْحِ، له وَلأُسرَتِهِ، فَكَانَ بَوَّابًا للعِمَارَةِ في الصباح وَفي اللَّيلِ يَعْمَلُ حَارِسًا في مَصْنَعِ مَكَرُونَةِ
( أَطْلَس المصرِيِّ) وَكَانَ المَصْنَعُ على بُعْدِ خُطْوَاتٍ مِنَ العِمَارَةِ التي يَعْمَلُ وَيُقِيمُ بِهَا.
لم يَكُن عَبدُ العَزِيزِ شَابًا صَغِيرَ السِّنِّ بَلْ كَانَ في العقدِ السَّابِعِ مِنْ عُمْرِهِ ، إذْ تَجَاوَزَ السِّتِّينَ مِنْ عُمْرِهِ ،
وَلَكِنَّهُ كَانَ قَوِي البِنْيَةِ إِلى حَدٍّ مَا ، فتراه يَتَمَاسَكُ لِيَكْسَبَ قُوْتَ يَوْمِهِ.
وَفِي صَبَاحِ يُومِ الإثنينِ عَقِبُ العَودَةِ مِنْ عطلَةِ نِهاية الأُسبُوعِ يَوم الأَحَدِ فُوجِئَ عَبْدُ العَزِيزِ بـِابنِ أُختِهِ
(حَسِيب) الذِي وَفَدَ إِليهِ مِنْ بَلَدِهِ في الصَّعِيدِ ، جَاءَ يَطلُبُ قِرشَينِ ليشتري طَعامًا .
حَسِيبُ هَذَا كَانَ شَخصًا ضَخْمَ الجِسْمِ قَوِي البِنْيَةِ
وَلَكِنَّهُ لا يَحُبُّ العَمَلَ وَيَرْفُضُ إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ النُّقُودَ مِنْ خَالِهِ الفَقِيرِ الذِي لَا يَمْلِكُ مِنَ المَالِ مَا يَسُدُّ حَاجَتِهِ
فَصَارَ في غاية الإِحرَاجِ ؛ لأنَّهُ لا يَمْلِكُ شَيْئًا ، وَبَعدِ شَدٍّ وَجَذْبٍ يُضْطَرُّ عَبْدُ العَزيزِ أَنْ يَقتَرِضَ منَ المعَلِّمِ حَسَن صَالِحِ
الذِي كَانَ يَعمَلُ مديرًا لَمصْنَعِ المَكرُونَةِ ، وَكَانَ رَجُلًا نَزِيهًا عَرَضَ عَلَى
(حسيب) هَذَا أَنْ يَعمَلَ في المَصنَعِ بَدَلًا مِنَ التَنَطُّعِ والتَسوُّلِ مِنْ خَالِهِ أَعطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ
فنادى على حسيبِ قائلًا : يَا حَسِيبُ ، مَا رَأْيُكَ أَنْ تَأْتِي للعَمَلِ في المَصْنَعِ ، وَأُعطِيكَ يُومِيةَ مِثْلَ خَالِكَ (25) قِرشًا في اليومِ ؟
رَدَّ حَسِيبُ قائِلًا : أَنَا لَا أَستَطِيعُ العَمَلَ لأَنَّنِي مَرِيضٌ .
هُنا تَدَخَّلَ المعلِّمُ شَعبَانَ صَاحِبُ مَحَلِّ الكُنَافَةِ وَالرُّقَاقِ ، وَطَلَبَ مِنْ حَسِيبِ قَبُولَ العَمَلِ وَالمُوَافَقَةَ عَلَى عَرْضِ المُعَلِّمِ حَسَنِ لأَنَّ العَمَلَ شَرَفٌ .
وَلَكِنَّ (حَسيب) تَعَلَّل بِأَنَّهُ مَرِيضٌ لا يَسْتَطِيعُ العَمَلَ،
وَظَلَّ يَلِحُّ، فَقَدْ كَانَ هَذَا الكَسُولُ المُتَمَارِضُ لحَوُحًا بِشَكْلِ يُسِيءُ لِخَالِهِ الرَّجُلِ الوَقُرِ
الذِي يَسْعَى جَاهِدًا للُقمَةِ العَيْشِ الحَلَالِ بِالعَمَلِ الشَّرِيفِ
إِلَّا أَنَّ الكَسُولَ اللَّحُوحَ أَبَى أَنْ يًبْرَحَ مَكَانَهُ دُونَ أَنْ يَحْصُلَ عَلَى مَا يُرِيدُ ، مِمَّا اضْطَرَّ عَبْدَ العَزيزِ أَنْ يُعْطِيه مَا طَلَبَ لِيَترُكَهُ لِعَمَلِهِ ، وَيَذْهَبُ عَنْهُ
وَهُوَ يَنصَحُهُ قَائِلًا :
يَا بُنَي لَقَدْ جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: « مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ»(1)