قبضة اليأس :
رؤوف جنيدي
تطالعتنا الأخبار بحوادث إنتحار الشبابٍ من الجنسين كان آخرها وليته يكون الأخير . هو حادث إنتحار الفتاة طالبة السنة الرابعة بكلية طب الأسنان / ميار محمد . التى ألقت بنفسها من شرفة الدور السادس بأحد المولات الشهيرة بالقاهرة بعد أن غافلت رواده . لتسقط جثةً هامدة وسط ذهول الحاضرين . وعلى مرأى ومسمع من عالمٍ غافلٍ أو متغافل . بعد أن إنشغل فيه كل فردٍ بنفسه حتى داخل الأسرة الواحدة . عالمٌ لم ينظر إليها طيلة عشرين عاماً إلا وهى تسقط الآن .. ولم يسمع آهاتها إلا وهى ترتطم بالأرض . فما كانت هذة القفزة إلا آخر محطات ضبابية الرؤية وحيرة الفكر . الذى أضناه صراع مرير مع حياةٍ تماهت فيها الصورة وشاهت ألوانها وغُم عليها النجاح فيها من الفشل . والهِداية من الضلال . فصارت الحقائق زيفاً وصار الواقع متداخل الألوان مختلط المفاهيم . وبكل أسى وأسف كانت الغلبة فيها لجحافل الهموم التى حاصرت فكرها فآثرت الهروب منها . وألقت بجسدها البريئ من قمة المجتمع إلى قاعِه …
وكما هى آفة حارتنا النسيان . بعد أن تغشى النفوسُ ماغشَّاها وران على عيوننا وقلوبنا تراب القبر الذى وارى جثمانها فى مثواه الأخير .. لننطلق بعدها فى صراع الفتاوَى والأحكام : أحرام مافعلت أم حلال ؟! . هل ماتت كافرةً أم ماتت على دينها ؟! . هل يُصَلَى عليها أم لا ؟! . أتدفن فى مقابر المسلمين أم تدفن فى مقابر المنتحرات ؟! . وكأننا أهل الفضيلة والعفاف وهى الإبنة العاقة التى شوهت صورة الفضيلة ولطخت ثوب العفاف . هى الضعيفة الذى أسلمت نفسها للشيطان .
ولكن : أقسم بالله العظيم : ما الشيطان إلا كل ما دفعها للإنتحار . وما الشيطان إلا مجتمع بات مفككاً أنانياً يعلو فيه صوت المصلحة فوق كل أنين . ويعلو فيه صوت ( الأنا ) فوق كل ( آه ) … وستبقى شُرفة المول شاهدةً على الجانى . تنظر فى ازدراءٍ على مجتمعٍ يدور فى طاحونةٍ . صَمَ ضجُيجُها الأذان . وأعمى غبارُها العيون . حتى أننا لم نعد نعرف من طحنت بالأمس ولا من ستطحن غداً . إلا لحظة إرتطامٍ بالأرض .. أو لحظة تمزيقٍ تحت عجلات . أو حشرجة روحٍ طردتها جرعةٌ سامة . فلنرفع أيدينا عنها . ولا نقتلها مرتين . مرةً بقتل الجسد . ومرة بقتل الروح …
فيا كل أب : إقترب من إبنك و إبنتك وقربه إليك . صاحبه . صادقه . تحدث إليه ليسمعك وتسمعه . فلم يعد حانياً عليه فى هذة الدنيا إلا بيتك . وإعلم : أن النفوس كهوف فأوغل داخل نفسه . أنِرها بمصباح الدين . إفتح كل مغلقٍ فيها . فتش عن كل ما يشوب صفاءها . واعلم أن باب بيتك يفتح على غابةٍ ترتع فيها وحوش آدمية . حصنه قبل أن يخرج إليها . واربت على ظهره وهدهد على روحه . إدعمه معنوياً ونفسياً ومادياً على قدر استطاعتك . وليس الدعم برغدِ العَيش أو بذخ الإنفاق . فلم ينته دورك عند الموبايل الأحدث ولا الملابس الماركة . فما كان الغني يوماً عاصماً من الذلل . وإنما الدعم بتنمية قدراته التحملية وصقل مهاراته لتقبل الحياة وتقلباتها . كى تُبقي على ما عنده من أملٍ بل وتُزيده إن أمكن . راجع أصدقاءه وأفكاره كل حين .
دعْه يعود إليك شاكياً باكياً . فإن ضاقت به السبل فليسعه صدرك . وإن قست عليه الدنيا ففى حضن أبويه الملجأ والسند . ليخرج إلى الدنيا فى كل مرة بدفعةٍ أبويةٍ جديدة تُعينه على التحمل وتحفزه على المواصلة . وليبق البيت مرجعه ومتنفسه ذهاباً منه وإياباً إليه . قبل أن يخرج ذات مرة يائساً مكتئباً . وقد يكون خروجه هذه المرة ……. بلا عودة .
الإبنة الغالية ميار . ويا كل من ألقي بنفسه تحت عجلات قطارٍ أو مترو . أو تدلي من عنقه . أو ألقي بنفسه من برج . كارهاً لحياةٍ ما لوثها فى نظره إلا بشر أمثالُنا . وغيرُ راغبٍ فى عيشةٍ ما أفقده الأمل فيها إلا أناس منا . ففضَّل العيش فى أحضان هياكلَ عظمية عن العيش فى أحضان هياكل آدمية دبت فيها برودة الموتي وهم على قيد الحياة . وإذا كنا نرفع القضايا لنطالب بحق مجنى عليه قُتل على يد جانى . فمن ينظر قضيةً فيها المجني عليه فرد والجاني فيها مجتمع بأسره إلا الله سبحانه وتعالى . فيا كل هؤلاء : أرقدوا أنتم فى سلام . عسي أن يتقبلكم ربكم بقبول حسنٍ . وأن يُنبتكم نباتاً حسناً . وأن يكفلكم بعفوه ورضاه ..
أما نحن كمجتمعٍ : فحتماً لنا مع الله شأنٌ آخر ..
