بقلم الدكتور عمران صبره الجازوي
بادئَ ذي بدءٍ قد يُستغربُ العنوانُ ، ويقولُ قائلٌ : هل هناك من يعبدُ النساءَ ؟
وللإجابةِ عن هذا السؤالِ أقولُ :
إنَّ العبوديةَ ههنا ليست بالمعنى الحرفي الذي يتمثلُ في التوجه إليهن بالعبادة ، بل غايةُ ما في الأمرِ أنَّ ثمّةَ رجالاً – وإن كانوا في الحقيقة ليسوا برجالٍ – قلوبهم قد تعلّقت بزوجاتهم ، وأصبح شغلهم الشاغلُ كيفيةُ إرضاءهن ، فهم يؤثرون رضاهن على رضا أمهاتهم اللائي ولدنهم ، فيتوضأ أحدهم بدموعِ أمه ؛ ليسجدَ في محرابِ زوجته ، وإذا ما تعارضت رغباتُ أمه مع رغباتِ زوجته قدّم رغبات الزوجةَ ، وأولاها اهتمامه ، فيغضبُ أمه ليرضيها ، ويمنعها ليعطيها ، ويميتها قهراً ليحييها ، فما أشقاه !
يجهلُ أو يتجاهلُ النصوصَ السماويةَ التي نزلت ؛ لتحثّه على برِّ أمه ، وتدعوه إلى الإحسانِ إليها ، فيعرضُ عنها ، وكأنها ما نزلت له ، ولا وُجّهتْ إليه . فلقد سألت أمنا عائشة – رضي اللهُ عنها – النبي – ﷺ – قائلةً :
يا رسولَ الله ، من أعظمُ الناسِ حقاً على المرأة ؟ قال : زوجها .
ثم قالت : من أعظمُ الناسِ حقاً على الرجلِ ؟ قال : أمه ” رواه الحاكم في مستدركه ، وجاء في المُستطرف من كل فنٍ مُستظرف : بلغنا أنَّ اللهَ تعالى كلّمَ موسى – عليه السلامُ – ثلاثةَ آلاف وخمسمائة كلمة . فكان آخرُ كلامه : يا رب أوصني . قال : أوصيكَ بأمك حسناً ، قال له سبعَ مراتٍ ، قال : حسبي ، ثم قال : يا موسى ، إنَّ رضاها رضاي ، وسخطها سخطي .
فالعاقلُ لا يعدلُ بأمه زوجةً ولا ولداً ، ولا يضعها في مقارنةٍ مع أحدٍ كائناً من كان ، فحبُّ الزوجةِ طبعٌ ، وحبُّ الأمِ شرعٌ ، والشرعُ – لا محالةَ – مقدّمٌ على الطبعِ ، ولكن كما قال الشاعرُ :
لقدْ أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً
ولكن لا حياةَ لمن تنادي
ولو نارٌ نفختَ بها أضاءت
ولكن أنت تنفخ في رمادِ
وعندي أنَّ الزوجةَ التي ترتضي إيثارها على الأم ، وتفضيلها عليها لا تعدو حالين :
أولاهما : أنها غرّةٌ جاهلةٌ بخطورةِ هذا الأمرِ ، وما يترتبُ عليه ، من كونها عُرضةً لأن يُتخلى عنها في أي وقتٍ ، إذ من هانت عليه أمه – وهي من هي – فغيرها عليه أهونُ .
لذا قالوا : لا تصلْ من قطعَ أباه ، فإنه لن يقطعَ أباه ويصلك .
ثانيهما : أنها نُزعتْ منها الإنسانيةُ ، وغلبتْ عليها الأُثرةُ – حبُّ النفسِ – وكلا الحالين مذمومٌ .
فيا كلَّ من غلبتْ عليه شقوته ، وآثرَ زوجته على أمه التي ولدته ، وسهرت من أجله ، وجاعت لتشبعه ، وشقيت لتسعده أعدْ حساباتك ، وضعْ الأمورَ في نصابها ، وأنزلْ أمك منزلتها اللائقةَ بها ، فلقد جعلَ اللهُ لكلِ شيءٍ قدراً ، واعلمْ أنّه إذا كان لزوجتك حقٌ فلأمك حقوقٌ ، فاعطِ كل ذي حقٍّ حقه ، ولا تبخسْ الناسَ أشياءهم ، ولا تبعْ آخرتك بدنياك ، فتشقى في الدنيا ، وتكون النارُ في الآخرةِ مثواك .