كتبت : مريم عوادي
يحدث في كثير من الأحيان أن يسرح بنا خيالنا ، و يتجه بنا عقلنا اللاواعي الى عالم افتراضي لطالما حلمنا به ، الى حياة نتوق شوقا لعيشها ، الى احداث نرغب في تجربتها و أخرى نرغب في تجنبها ، فنهيم بأفكارنا اللامتناهية في بحر معارفنا مسترجعين ما مضى بحلوه و مره مما يقودنا الى استذكار اشخاص نريد الإبقاء عليهم و آخرين نتلهف لإقصائهم بدون رجعة .
في أحيان أخرى تسافر بنا ذاكرتنا في رحلة زمنية و تضعنا مجددا في مواقف معينة نتمنى لو أن تصرفاتنا او ردة افعالنا خلالها كانت مختلفة و مغايرة تماما لما جرى .. حينها فقط لكنا وفرنا على انفسنا عناء خوض تجارب قاسية نتيجة قراراتنا الخاطئة وقتها ، و لكن يا للأسف !! فالحياة لا تقدم دروسا مجانية كما انها لا تخبرنا بموعد و نموذج الامتحانات التي تختبرنا بها ، هي فقط تفاجئنا و تفجعنا من دون سابق انذار و تتوقع منا الثبات و المواجهة ، هذا الأخير الذي هو قطعا الحل الوحيد للوجود و الاستمرار في العيش و ليس “الحياة” لان ارواحنا تحيى فقط عندما تكون مزهرة و مرتاحة .. اما كل تلك الفترات التي نسخط فيها بسبب معضلات الدنيا و تنطفئ فيها شعلة الفرح داخلنا … خلال هذه المراحل بالضبط نحن لا نمارس سوى ” العيش” ، نحن لا نزال نملك جسما ماديا يثبت وجودنا في هذا الكون الفسيح .
قلوبنا لا زالت تنبض ، نقوى على التنفس و الحراك، و لكن جنازتنا كانت قد اقيمت و شيعت في عالمنا الخفي الغير الظاهر ، العالم الذي وحدنا و اقرب الاقربين فقط من يمكنه التطفل عليه و استيعابه . رغم هذه المسيرة الحياتية المتعبة للكثيرين الا ان هناك دائما صوت داخلي يهمس لنا بثقة عالية قائلا ” كل شيء سيكون على ما يرام ستمر هذه الصعاب و تحل محلها الافراح الأبدية”…..
لحظة ! ماذا لو كانت الحياة مختلفة ؟ او بالأحرى ماذا لو كانت الحياة بترتيب اخر؟
ماذا لو كنا نولد شيوخا و عجائزا بصحة و بنية جسدية ضعيفة، شعر شائب، و الأهم من هذا كله الكثير من الحكمة و الرزانة، فنبدأ بخوض تجربة الحياة … نتقاعد أولا من عملنا ثم ندخل مرحلة العلاج و البحث عن افضل المستشفيات و المراكز الطبية لنتخلص من المشاكل الصحية التي باتت عائقا لتقدمنا، نحظى بعدها بالكثير من الأولاد و الاحفاد الذين يزينون حياتنا و يضيفون الكثير لها … نعيش برفقتهم سنينا عديدة تتخللها لحظات الفرح و الانتصارات و اللمة العائلية ، نكبر بعدها اكثر لكي نلتقي أخيرا بشريك الحياة المناسب الذي يصبح المصدر الأساسي للسكينة و الحنان و الدعم المعنوي ، نسافر معه و نجوب ارجاء العالم ، نستمتع بدراسة الادب و نتذوق مختلف أنواع الفنون بصحبته ، من ثم ندخل مضمار الرحلة الدراسات العليا ، فنختار تخصصا عن اقتناع و نسجل في احدى الجامعات اين نقضي أعواما من عمرنا في التعلم و البحث العلمي الذي يعطينا فهما اعمق لذواتنا و للعالم من حولنا. اما الخطوة التالية هي المراهقة حيث يصيبنا طيش الصبا و الاعجاب بكل ما هو غير منطقي و محاولة تطبيق كل ممنوع ، نعيش اجمل التجارب في هذه المرحلة بداية من التمرد عن الأساتذة للهروب من البيت … نكون صداقات و نلهو كثيرا ، نرسم و نسبح و نشاهد اخر المسلسلات ، نقضي اوقاتا ثمينة برفقة الاحباب اين تتعالى ضحكاتنا لدرجة انهمار دموع الفرح … نتخطى كل هذا للانتقال لمرحلة الطفولة حيث ننسى كل شيء و نقلص دائرة حياتنا لتقتصر على بعض الدمى الوفية التي نحملها معنا لكل ركن في البيت ، نلهو معها و نعتبرها جزءا منا ، نركز حينها على فرحتنا و راحتنا و نترك كل مسؤوليات الحياة ورائنا ، نركض بكل براءة و بكل سلام داخلي لتنتهي بنا الحياة هكذا …. فنغادر الكون بلا كره ولا حقد على أي شخص ، بلا هموم ماديات الدنيا التي تثق كاحل الانسان ، بلا تأنيب ضمير عن أخطاء ارتكبناها ، بلا ندم على قرارات اقدمنا عليها …. فقط نغادر بقلب سليم !
يا ليتنا أدركنا مسبقا وجوب المثابرة للخروج من الحياة كالطفل الصغير .. لكنا اخترنا مسارا أصح لحياتنا ، لكنا ألطف مع ذواتنا … و في الأخير كنا لندرك جوهر الحياة الحقيقي فنعيش مرتاحي البال مطمئني النفس !
و لأن الحياة لا تكرر ، لم يفت الأوان بعد للتغيير ، كونوا أطفالا فالطفولة لا تقتصر على العمر و انما على صفاء القلب و نقاوة المشاعر وبساطة الغاية … دمتم أطفالا في عالم يعج بالمسنيين !)