سقالة القصير: حكاية مجد ضائع بين الأمواج”
حنان عبدالله هشى …
يسرد مؤرخ القصير الدكتور طه حسين الجوهرى الكثير والكثير من حكايات في مدينة القصير، فهناك حكاية مغزولة من صفحات التاريخ، تسرد قصتها الرياح وأمواج البحر على أنغام الذاكرة الجماعية. إنها حكاية “السقالة”، التي تقف كجندي عتيق صمد أمام عجلة الزمن، شاهدةً على عظمة الماضي واندثار مجدها.
على ضفاف خليج صغير، تحكي السقالة قصة مدينة كانت يومًا بوابةً لعالم من العجائب، تستقبل السفن القادمة من أصقاع الأرض، محملة بالعطور والبهارات والأخشاب النادرة. كانت هذه السقالة، بطولها الممتد 117 مترًا، وعرضها الذي يربط بين البر والبحر، كجسر يربط القصير بالعالم الخارجي. على تلك الألواح الخشبية، كان التجار والبحارة يتبادلون الحكايات كما يتبادلون البضائع، حيث كانت الرياح تحمل أصواتهم بعيدًا في الأفق.
بُنيت السقالة في عهد محمد علي باشا، الذي كان يحلم بأن يجعل من ميناء القصير ميناءً يعج بالحركة والنشاط، مثل ميناء رأس التين. تم بناء السقالة بجدران حجرية صلبة، تغوص في قاع البحر، وألواح خشبية تجابه الأمواج بعزم وقوة. كانت هذه السقالة رمزًا للتحدي والبناء، ولكنها لم تكن مجرد مبنى، بل كانت قلبًا ينبض بالحياة.
مر الزمان، ومعه تغيرت الأيام، ولم تعد الرياح محملة برائحة التوابل والعطور كما كانت من قبل. فأصبحت السقالة تعاني من تلف وألم، تعكس حال المدينة التي بدأت تفقد بريقها مع انتقال التجارة إلى أماكن أخرى، ومع افتتاح قناة السويس التي سحبت الأضواء من ميناء القصير.
في عهد الخديوي إسماعيل، كان هناك محاولة لإنعاش السقالة، كما يُنعش الأمل في قلوب اليائسين. تمت عملية ترميمها بغرز أفلاق الدوم، لكن رغم الجهود، لم تستعد السقالة مجدها القديم. كانت الأمواج والجزر تعصف بها، كما تعصف الأيام بذكريات الماضي، وتتركها ممزقة على شاطئ النسيان.
ولما زار محافظ عموم سواحل البحر الأحمر “علي رضا” المدينة، وسمع من التجار شكواهم عن تدهور السقالة، كان كأنه يسمع أنين المدينة كلها. طالب بإعادة بنائها على ما كانت عليه، واصفًا إياها بأنها جزء من هوية المدينة وروحها، وجسر بين الماضي والحاضر.
لكن السقالة، رغم كل الترميمات والإصلاحات، لم تعد كما كانت. بقيت شاهدة على أمجاد غابرة، وأيام لن تعود. وتحولت من قلب نابض بالحياة إلى أثر يروي قصصًا قديمة، قصصًا تمزج بين الطموح والألم، بين البناء والانهيار.
وهكذا، تظل سقالة القصير واقفة في مكانها، ليست فقط كجسر من خشب وحجر، بل كجسر يربط بين ما كان وما سيكون، تنقل للأجيال القادمة حكايات عن مجد قديم، ومدينة كانت يومًا ما نقطة التقاء بين البحار والعوالم.