إني أتساءل
بقلم : عبدالرحيم حشمت عسيري
إذا أردنا أن نفهم الحاضر …. ونستشرف ما هو قادم …. وجب علينا أن نستحضر الماضي بتجاربه المتراكمة ، وانتصاراته الكبرى … وانكساراته المؤلمة ، ودروسه المستفادة، وقراءة الحاضر بهذه الطريقة العلمية المنظمة من الأهمية بمكان بالنسبة لدولة بحجم ، وتاريخ ، وعظمة مصر … ولا انحياز في ذلك فهي الدولة الوحيدة القابضة على مبادئها عبر الأزمنة ….. حيت تتحلى سياستها دائما وأبدا بالتوازن والوسطية، والانضباط والمسئولية، وتتميز بعمقها الحضاري، ودورها الريادي في بعث روح الأمة ، وإشعار أبنائها بالشموخ والعزة والكبرياء والقوة بهيمنتها الثقافية ومواقفها القومية ومعاركها التاريخية ، وستبقى مصر حصنا للأمة من الضياع والهلاك بالرغم مما قدمته من تضحيات في الأموال والأرواح على مر العصور السابقة .. هكذا هي مكانة بلادنا عبر العصور .. ومع ذلك لم يتلبسنا شيطان الغرور …. ولم يتملكنا سلطان العظمة …… ولم نشعر يوما أننا أفضل من إخواننا في الدين أو اللغة .
ونتيجة للقيام بهذا الدور القيادي .. تحولنا خلال عدة عقود من دولة غنية دائنة لبريطانيا العظمى التي كانت لا تغيب عنها الشمس !! ……. لدولة فقيرة مدينة لطوب الأرض ، ومحتاجة إلى مساعدة كل من هب ودب …. فكان من الطبيعي استحضار الماضي في هذه المرحلة الحرجة …. من أجل اعادة النظر في ترتيب الأوراق من باب فقه الأولويات …. خصوصا بعدما تخلى عنا الأشقاء والأصدقاء في هذه الأيام السوداء !! … كما صرح بذلك الرئيس عبدالفتاح السيسي .. الذي يقود الدولة منذ أن وصل لسدة السلطة بمنتهى القوة ، والأمانة ، والشفافية ، والمصارحة …. وكأننا اكتشفنا فجأة أننا نعيش في عالم لا يقيم وزنا إلا للمادة ، عالم يفتقد ثقافة البذل والعطاء ، ولا يفهم إلا لغة القوة ؟ .. وهنا أتساءل ماذا نحن فاعلون للخروج من هذه الأزمة الاقتصادية الطاحنة ؟ .
فهل تعود الدولة للتقوقع في محيطها التقليدي وتدور مرة أخرى في نطاق ما اعتادت عليه في الماضي بعدما تنقشع السحب ، وتهدأ العاصفة التي أصابتنا بصدمة عنيفة ، وتركت في نفوسنا احساسا كبيرا بالمرارة ؟ …….. أم لديها رؤية شاملة ، وتملك بدائل جاهزة ستعمل من خلالها على إعادة النظر في سياستنا الخارجية القديمة .. ومن ثم تعيد رسمها على أسس جديدة بما يحقق مصلحتنا الوطنية الصرفة من الحيثيات كافة ……… سواء من حيث التعاون العسكري ، أو التنسيق الامني ، أو التوافق السياسي ، أو التكامل الاقتصادي ؟ .. وهل يقودنا هذا التحول، إلى أن نسقط من حساباتنا المستقبلية الارتباطات التقليدية التي عطلت مسيرتنا الوطنية على مر الأزمنة الماضية ؟ ، وبالتالي هل تنفتح الدولة على القوى الاقليمية وتقيم معها شراكات استراتيجية ؟ ، وبمعنى آخر هل تتخذ الدولة من فلسفة علاقاتنا الخارجية التي اعتمدناها لمدة وجيزة عقب ثورة 25 يناير الشعبية الخالدة نموذجا يحتذى وقبلة جديدة ؟ .
ومن ناحية أخرى هل أدركنا أن اعتمادنا على أنفسنا أصبح أمرا واقعا لا محالة … وأن ضم الأموال العامة المكدسة في الصناديق الخاصة لخزانة الدولة ، أصبح ضرورة وطنية مستعجلة ؟ .. خاصة أن موارد هذه الصناديق تقدر بحوالي 80 % من اجمالي الموارد العامة للدولة في الوقت الذي نعاني فيه من عجز كبير في الموازنة العامة ….. ويكفي أن نعلم أن هذه الصناديق لا تخضع لأية جهة رقابية باستثناء خضوعها لرقابة شكلية من قبل الجهاز المركزي للمحاسبات .. والأدهى والأمر أن ميزانية هذه الصناديق لا يناقشها مجلس النواب ، ولا توجد لها بيانات دقيقة تحدد ايراداتها ولا احصائيات معتمدة تحصي عددها وطالما لا توجد آلية تحدد ايراداتها وعددها إذن من الوارد أن تكون هناك صناديق خاصة لا يعلم أحد عنها شيئا لا من حيث حجم الايرادات ولا من حيث أوجه الانفاق !! .
والعجيب أن تسمح الدولة بهذه الفوضى العارمة !! …… في التعامل مع الأموال العامة في الوقت الذي تتبنى فيه استراتيجية جديدة لتحويل منظومة الخدمات الحكومية القائمة ….. إلى نظام الكتروني رقمي لا مجال فيه للرشوة والاختلاس والتزوير والسرقة، وذلك من خلال ميكنة كافة الإجراءات الحكومية على مستوى الجمهورية وتقديمها عن طريق منظومة حوسبية رقمية مختصرة دون أي تدخل للعنصر البشري. من أجل محاربة الفساد ، والقضاء على الروتين ، وتوفير الوقت والجهد والمال …. وتقديم الخدمات الحكومية للمواطنين والمستثمرين على حد سواء بصورة أسهل مما هي عليه الآن .
والصناديق الخاصة بالمناسبة هي أوعية الأموال العامة الموازية …….. الخاصة بالوزارات والهيئات والمحليات والمستشفيات والجامعات، وغيرها من الادارات والهيئات الحكومية الأخرى … وحتى تتضح لنا الفكرة ، وتكتمل أمامنا الصورة ، ونكون على بينة بأبعاد هذه القضية، لابد من القاء الضوء على مصادر الأموال التي تتلقاها الصناديق الخاصة، منها على سبيل المثال لا الحصر رسوم الطرق (الكارتة) ، ومخالفات المرور …. ورسوم الطوابع والدمغات والغرامات ، ورسوم النظافة ورسوم مواقف السيارات ورسوم استخراج اللوحات المعدنية للسيارات وتذاكر دخول المستشفيات الحكومية، ورسوم دخول الأماكن السياحية، ورسوم التصالح في مخالفات البناء ، ورسوم استغلال المحاجر ، ورسوم رخص الحديد والاسمنت والأسمدة ، ورسوم ترخيص الورش والمحلات التجارية ، وغيرها من الرسوم والخدمات الحكومية الأخرى .
أما العمل بمنظومة الصناديق الخاصة، فبدأ بشكل منهجي كحلقة من سلسلة حلقات مسلسل الفساد الذي بدأ بسياسة الانفتاح التي دمرت الصناعة الوطنية في عصر السبعينيات، لكن الصناديق الخاصة –والحق يقال– أصبحت وجها من أوجه الفساد المقنن ، وشكلا من أشكال النهب المنظم في عصر الثمانينيات .. فهل نضم أموال هذه الصناديق لخزينة الدولة للخروج من هذه الأزمة الخانقة خاصة وأننا نعيش في عصر قيادة تحارب الفساد دون هوادة ؟ .
أما دورنا نحن كمصريين –في هذه المرحلة الخطرة التي فرضت علينا أن نختار إما الدولة أو اللحمة بالمعنى الرمزي للكلمة– فهو المثابرة والتكيف مع تبعات هذه الأزمة في ضوء القدرات المتوفرة والامكانيات المتاحة .. وفي سبيل ذلك يجب علينا جميعا أن نحول دعوة محاربة الغلاء بالاستغناء التي أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسي …. من مجرد دعوة حالمة إلى أسلوب حياة متكاملة إلى أن نخرج من هذه الأزمة … التي بدأت ولا يعلم أحد على وجه الكرة الأرضية متى وكيف ستنتهي فصولها المأساوية .
ورغم أن هذه الأزمة ليست قاصرة على بلادنا فحسب وإنما هي أزمة عالمية ، ورغم أن البشرية جمعاء تكتوي كل يوم بلهيب الغلاء …. لكن الأعداء والعملاء والخونة استطاعوا من خلال أبواقهم الإعلامية ، وأساليبهم المضللة ، ولجانهم الإلكترونية …… أن يوهموا الجهلة بأن أسباب الغلاء في مصر تعود إلى فشل القيادة السياسية في إدارة شئون الدولة !! .. مستغلين في ذلك ارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية في اليوم الواحد عدة مرات نتيجة لضعف الرقابة ، وجشع التجار ، وغياب المتابعة ………. مستهدفين من وراء ذلك إيقاظ الفتنة ، وإرباك أجهزة الدولة ، وزعزعة الثقة بين الشعب والقيادة .
ولم يكتفوا بذلك بل استغلوا تفاقم الديون الخارجية بهذه الكيفية …. واعتماد الدولة على القروض والمساعدات في إطعام شعبها .. واستكمال مشاريعها القومية ……… فعمدوا إلى نشر الشائعات حول بيع أصول الدولة التي لا تقدر بكنوز الدنيا وفبركوا التسجيلات الصوتية لأعلى قمة هرم السلطة وكبار رجال الدولة … مستغلين في ذلك أدوات التكنولوجيا الحديثة .. ولم تسلم من هذه الشائعات المغرضة ، وتلك التسجيلات المفبركة .. قناة السويس التي حفرها أجدادنا بأظافرهم ، وارتوت بدمائهم الطاهرة …. وقناة السويس لمن لا يعرف تعد إحدى أهم الممتلكات العامة الأربعة المحرمة .. التي استقرت حرمتها في وجدان هذا الشعب .. وتعاظمت أهميتها في ذاكرته الوطنية حتى وصلت إلى حد القداسة ….. فاكتسبت نوعا من الحصانة ، وأصبحت جزءا لا يتجزأ من كيان الدولة … ولا يحق لأحد على وجه الأرض مهما كبر منصبه ومهما علا شأنه أن يتصرف فيها تحت أي ظرف من الظروف …. وبأي شكل من الأشكال .. بل ولا يجوز لكائن من كان التفكير في ذلك .