أمومةٌ حائرة وأبوةٌ عفيفة : _
رؤوف جنيدي
على مشارف الفراق . وبالقرب من حواف العمر وفى محطته قبل الأخيرة .. تحار أمٌ لم يرزقها الله إلا ذكوراً .. ويتعفف أبٌ لم يرزقه الله إلا إناثاً . فهو سبحانه وتعالى من يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور . وتلك عطايا الله لعباده وكلٌ قد استقبلها على الرحب والسعة . فلله فى خلقه شؤون وفى رزقه مقدرات . وتبقى الأفئدة متعلقة بأن يزوجهم الله ذكراناً وإناثاً . وهو ما يتمناه كل أبوين لإبنهما أو إبنتهما . وقد لا يتأتى لهما هذا إلا فى خريف العمر . وبعد صراع طويل مع دنيا شاقة . وحياة صَعـُبت أيامُها وقست لياليها . فناءت الكواهل من فرط ما حملت . وانحنت الظهور . واعتلت الصحة . ونضب المعين الذى أنفق بكامله حباً وطواعية على زواج الإبن أو الإبنة . وباتت الأمراض تطل برؤوسٍ كرؤوس الشياطين على أجسامٍ هزيلة . بعد أن أبلاها الزمن وأعيتها سنواتٌ عجاف . إمتصت رحيق الشباب منهما . وأتت على حصاد عمرٍ مديد . راح كله فى تأسيس بيت الإبن أو الإبنة ..
ندائى هذا إلى كل شابٍ تزوج من فتاةٍ ليس لأبويها ذكور .. ولكل فتاةٍ تزوجت من شابٍ ليس لأبويه إناث ..
الإبن الغالى : إعلم يابنى أن زوجتك هذه لم تأت اليك إلا بعد رحلةٍ شاقةٍ مضنية . قطعها أبواها منذ أن شبت صبية . فكم سهر والداها يعُدون العُدة لتدبير نفقات إحتياجاتها من أقواتهم المنهكة أصلاً . شهراً بشهر إن لم يكون يوماً بيوم . ومن الآباء من لم تسعفه حاله . فباع ما كان يتوكأ عليه من فتات أرضٍ أو بقايا حُلِىَّ كان تحتفظ بها الأم لمواجهة تقلبات الزمن . ففضلا إبنتهما على كل ما عداها لإستكمال نصاب زيجة تليق بحضرتك . كم طاف الأب بفكره ليلاً وحرم نفسه نهاراً من طيب المأكل والملبس لتلبية احتياجات بيت زوجيةٍ يناسبك . يابنى قد استحللتها بكلمة من أبيها على سنة الله ورسوله . فقدمها لك طواعيةً وعلى أكف الرضا والمحبة . ثم عاد خالى الوفاض لتنهشه الديون التى قطعها على نفسه لقاء ما تتنعم عليه الآن من فُرُشٍ بطائنها من حرير . ومقتنياتٍ فاخرة من قوارير فضية وكريستاليةٍ وغيرها . تشرف بها أمام ضيوفك وذويك . وتذكر أن هذا الرجل الذى طأطأت رأسك أمامه يوماً خجلاً وحياءً فى أولى زياراتك له ترجوه الموافقة والقبول . هو نفسُه الرجل الذى يتمناك الآن أن تكون له الإبن الذى لم ينجبه .
إبنى الغالى : أبعد كل هذا وهو قليلٌ من كثير لا يجدك هذا الرجل إبناً باراً به تقف إلى جواره سنداً ومتكأً له فى خريف عمره ؟. أبعد كل هذا لا يجد هذا الرجل فى بيتك الحفاوةِ والترحيب اللذان يستحقهما ؟ . أبعد كل هذا يشعر الرجل بوحشةٍ فى بيتك خجلاً وحياءً من معاملةٍ رسمية قد تشعره بالغربة ؟ . أليس هذا هو الرجل الذى إن رأى إبنك او إبنتك إنخلع قلبه شوقاً وحباً لايعلمه إلا الله ؟.. إبنى الغالى : أمرَنا الله ألا ننهر والدينا ولا نقول لهما أفٍ وأن نعاملهما بكل إحسان . وتأمُرنا الأخلاق والفضيلة أيضاً ألا نتأفف أو نتضرر من والد الزوجة وأن نتودد إليه بكل مودةٍ وتراحم وعلى خير ماكان يتمنى منك . إعلم يابنى أنه إذا كان البر بالوالدين لاحقٌ فى مرتبته على عباده الله . ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً ) فبِرُكَ بوالد زوجتك لاحقٌ للأصالة وحسن الخلق . وما انفصل الدين يوماً عن مكارم الأخلاق .
وأنت ياابنتى الغالية : إختارتك أم زوجك من بين الكثيرات . وفضلتك على الكثير من بنات جيلك . فكم طافت به ومعه أياماً وشهوراً تطوى المسافات وتطرق الأبواب لتبحث له عن ( بنت الحلال ) . حتى إستقر الرأى عليك رضاً واقتناعاً . وإعلمى يا ابنتى أنها يوم زارتك زيارتها الأولى مع إبنها . لم تكن تبحث فيك جمالاً ولا دلالاً ولاحسن هندامٍ ولا أناقة . ولا أى ماركات الملابس ترتدين . ولا أى أنواع العطور تستخدمين . فهذا من شأن ابنها وحده . وإنما كانت تبحث فيك عما تحتاجه هى . كم تصلحين إبنةً لها ؟ كيف وكم ستكونين صديقتها الصغرى ؟ . كم ستكونين عكازها الذى ستتوكأ عليه يوماً ؟ . كم تمنت أن تكونين الورقة التى تنبت على عودها من جديد بعد أن تساقطت أوراق خريفها وجفت فيها روافد النضارة والعافية . رأت فيك من يؤنس وحشتها ويصادق أنوثتها وتطلعه على خصوصياتها . رأت فيك من يَعْمُر بيت إبنها ويروى بيتها بأنهار الرقة والحنان الذى حرمت منه . رأت فيك من ترفع عنها بعضاً من أعباء بيتٍ أفنت فيه شبابها فى خدمة أبناءها الذكور . ولما وجدت فيك ما تمنته أو هكذا ظنت . قدمت لك إبنها شاباً يافعاً نافعاً كانت تتمناه الكثيرات حتى من بنات العائلة نفسها بعد أن فضلتك عليهن . قدمت لك فلذة كبدها على طبقٍ من الرضا والحفاوة . مصحوباً بزغاريد أطلقها قلبها قبل لسانها .
أبنتى الغالية : أبعد كل هذا وهو جزءٌ من كل . لا تجد فيك هذه الأم الإبنة الحانية التى تمنتها من الله ؟. أبعد كل هذا تعاملينها بنديةٍ وصلف وهى التى قد تكون أكبر سناً من أمك ؟. أبعد كل هذا لا تقابلين هذة السيدة فى بيتك بكل الحفاوة والترحيب إن هى جاءت لزيارتك ؟. هل يُعقل أن تجلس هذة السيدة على أول كرسى بجوار باب شقتك إلى أن تغادر ؟ . هل من اللائق أن تجلس هذة السيدة فى بيتك عاقدة ذراعيها فوق صدرها كما التلميذة . تخشى أن تتجول فى شقتك أو تطأ سجادك حتى لا تتبرمين من فعلتها ؟ .. ألم يكن بيت هذه السيدة حضانةً مجانيةً حانيةً عليك وعلى أطفالك دوماً ؟ . فى بيت مَن ترتاح هذه السيدة ؟!! . فى بيت مَن تأكل هذه السيدة ما تشتهيه بعد أن تيبست أصابعها من فرط ما قدمت لكم ؟!! . مَن يطبب هذة السيدة إن هى مرضت . غيرك ؟ . مَن تطلعه هذة السيدة على خصوصياتها إن هى إشتكت . غيرك ؟ . أبعد كل هذا تتأففين من زوجك إن هو أنشغل بها إلى جوار انشغاله بك وبأولادك ؟ . أتريدين الإنفراد به وهو إبنها قبل أن يكون لك زوجاً . أم كُتب عليها الفناء فى شبابها وفى هِرَمها ؟! .
أعزائى : ما أناشدكم إياه الآن . لايُطلب بسيف الذل والهوان . وإنما يُمنح بعز الأصالة وحسن الخلق .. وأعلم يابنى : أن برَك بأبيك منقوصٌ إجتماعياً مالم تحمل هذا الرجل على جناح الود والتراحم . واعلمى يا ابنتى : أن برَك بأمك منقوصٌ إجتماعياً مالم تحملين هذة السيدة على جناح العطف والحنان .
فإن كنت يا بُنى شاب اليوم فأنتَ كهل الغد . وإن كنت يا ابنتى حسناء اليوم فأنتِ عجوز الغد .. فليعمل كل منكما كما يشاء . فكما تدين تدان .
وتذكرا دائماً قول الله تعالى
( وتلك الأيام نداولها بين الناس )
صدق الله العظيم